علاج السم والسحر
عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من تصبح بسبع تمرات من تمر العالية لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر"(1) أخرجاه في الصحيحين.
وفي رواية عنه : " من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها (2) حين يصبح لم يضره سم حتى يمسي" (3)
قال المؤلف : التمر حار في الثانية ، يابس في الأولى، وقيل : رطب فيها، وهو غذاء فاضل، حافظ لصحة أكثر الأبدان، مقو للحرارة الغريزية، وهو أفضل الأغذية في البلاد الباردة والحارة، التي حرارتها في الدرجة الثانية، لبرودة بواطن سكانها، ولذلك يكثر أهل الحجاز واليمن والطائف وغيرها/ من البلاد المناسبة/ لها من الأغذية الحارة : كالتمر والعسل، ويتوبلون طعامهم بالفلفل ونحوه ، ويوافقهم [ ذلك في ] حفظ صحتهم، وتمر العالية أصناف من أعلى التمر : ملزز متين الجسم وغير ذلك. والعالية : مكان بظاهر المدينة معروف ، ينسب إليه لجودته وبركته.
قال بعض العلماء : العالية : ما كان من الحوائط والقرى والعمارات من جهة المدينة العليا ، مما يلي نجد، والسافلة : من الجهة الأخرى مما يلي تهامة، قال : وأدنى العالية ثلاثة أميال ، وأبعدها ثمانية أميال من المدينة.
قال الشيخ محيي الدين النووي : أما فضيلة التصبح بسبع تمرات منه، وتخصيص عجوة المدينة دون غيرها، وعدد السبع من الأمور التي علمها لنا الشارع ، ولا نعلم نحن حكمها، فيجب الإيمان بها، واعتقاد فضلها، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم .
قلت : ويجوز نفعه من السم مطلقا بما فيه من تقوية الحرارة الغريزية ومتى حصل ذلك قويت القوى كلها، وقاومت السموم الحارة والباردة بقوتها. ويجوز أيضا أن يكون بخاصية في تمر الأماكن المذكورة ، وهذا مما لا ينكر طبا.
قال القاضي عياض رحمه الله : تخصيصه صلى الله عليه وسلم ذلك بعجوة العالية، وبما بين لابتيها ، يرفع الإشكال، ويكون تخصيصا لها، كما يوجد الشفاء لبعض الأدواء، في بعض الأدوية التي تكون في بعض البلاد دون ذلك الجنس في غيره، لتأثير يكون في ذلك من الأرض أو الهواء، وأيضا فإن كثيرا من النباتات في بعض البلاد أغذية مأكولة ، وفي بعضها سموم قاتلة، لاختلاف / الأهوية والأراضي.
/ قلت : هذا الذي ذكره القاضي عياض رحمه الله صحيح، وذلك كالنبات المسمى بيشا (4) ، فإنه ينبت بأرض الصين، ببلد يقال له : (هلاهل) قرب السد، ويعلو قدر الذراع، وله ورق كالهندبا (5) ، يؤكل هناك رطبا ويابسا، فإذا أبعد عن السد بمائة ذراع، قتل آكله، ويقتل جميع الحيوان إلا الفأر والسلوى (6) ، فلا يبعد حينئذ أن يكون لتمر العالية خصوصية النفع من السم بالمدينة ونحوها، وأيضا تمر اللبخ(7) ، فإنه كان يقتل آكله ببلاد الفرس ، فلما [ نقلت شجراته ] إلى مصر وبلادها، زالت مضرتها إذا أكلت.
وأما عدد السبع فأمر جاء في الشرع منه في هذا الباب كثير، كقوله :
" صبوا على من سبع قرب " (8) وغير ذلك، فكان هذا العدد مبالغة كثرة وتر الأفراد ، وكقوله تعالى : { سبع سنابل } [ البقرة 261] كما أن السبعين مبالغة كثرة العشرات، كما جاء في قوله تعالى : { إن تستغفر لهم سبعين مرة } [ التوبة 80] ، وكما أن سبع مائة مبالغة في كثرة المئين، كقوله : إلى سبع مئة ضعف ، وكذا جاء في سبعين ألف ملك وغير ذلك .
قال بعض أهل اللغة : العرب تضع السبع موضع الكثير، ولا تريد به الحصر.
قال صاحب إخوان الصفا : أما عدد السبع فلأنه أول عدد كامل، إذ العدد كمية متكثرة مؤلفة من آحاد ، والواحد وإن كان أصل العدد فإنه ليس بأوله ، إذ أول العدد الإثنان ، لأن العدد جماعة منتظمة من وحدات أو كمية متكثرة بآحاد، والوحدة تخالفه، فأقل الكثرة الإثنان/ ، وهو أول العدد. والعدد نوعان : أزواج وأفراد ، فالسبعة جمعت / معاني العدد كله شفعه ووتره، فلذلك جعلت أول العدد الكامل ، لأن الأزواج منها أول وثان، وكذلك الأفراد، فالاثنان أول الأزواج، والأربعة زوج ثان ، والثلاثة أول الأفراد، والخمسة فرد ثان، فإذا جمعت " فرد ثان" إلى أول زوج، و "زوج ثان" إلى فرد أول، كانت منهما سبعة، وكذلك إذا أخذ الواحد الذي هو أصل العدد مع الستة التي هي على مذهب الحكماء، عدد تام، تكون منهما سبعة التي هي عدد كامل ، لأن الكمال درجة فوق التمام، وهذه الخاصية لا توجد لعدد قبل السبعة، فلهذا أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم ، ونص عليها دون غيرها، والله أعلم .
وقوله : "لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر" ، والسم : مادة حيوانية رديئة منافية بالذات لحياة الإنسان ، ولحياة أكثر الحيوان. وفيه ثلاث لغات : فتح السين وضمها وكسرها، والفتح أفصح ، وجمعه سمام وسموم. وهو نوعان : حار كسم الأفاعي ، وبارد كسم العقارب والرتيلا (9) وغيرهما . وأما السحر فهو الأخذة وكل ما لطف مأخذه ورق فهو سحر .
قال الجوهري : وهو أيضا في كلامهم للصرف والخديعة، ويقال : هو إخراج الباطل في صورة الحق، وقد يكون قولا كالرقية، وفعلا كالتدخين، وله حقيقة عند الشافعي [ رضي الله عنه ] ، فهو يؤثر في إيلام الجسم وإتلافه، [ويحرم] فعله وتعلمه .
قال العلماء / فإن تعلمه لا يكفر إلا إذا اعتقدت إباحته. ويجب عند الشافعي على القاتل القود خلافا لأبي حنيفة.
وقال مالك : الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب، ولا تقبل توبته.
وروى البخاري رحمه الله أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قدم رجلان من المشرق فخطبا ، فعجب الناس لبيانهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إن من البيان / لسحرا " (10) قال الأزهري : يعني منه ما يصرف قلوب السامعين إلى ما يسمعونه وإن كان باطلا.
[ قال الغزالي رحمه الله في تعريفه للسحر : إنه نوع يستفاد من العلم بخواص الجواهر، وبأمور حسابية في مطالع النجوم، فيتخذ من تلك الجواهر هيكل على صورة الشخص المسحور، ويرصد له وقت مخصوص منه الطالع، وتقرن به كلمات يتلفظ بها من الكفر ، والفحش المخالف للشرع، ويتوصل بها إلى الاستعانة بالشياطين، ويحصل من مجموع ذلك بحكم إجراء الله تعالى العادة، أحوال غريبة في الشخص المسحور، والوسيلة إلى الشر شر ، لأدائه إلى الضرر. واعلم أن حل السحر مندوب إليه، ومثاب عليه، فليس حل السحر سحر، كما ذهب إليه بعضهم ، وتورع عن فعله .
فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خير الناس أنفعهم للناس " (11)
وأنه صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يخيل إليه أنه يأتي أهله فيغتسل ، وأنه سأل الله تعالى حتى أطلعه على ذلك السحر، ومن سحره، ومكانه الذي كان فيه حتى ذهب إليه وأخرجه، كما جاء في الحديث الصحيح(12).
وسئل الإمام أحمد وسعيد بن المسيب ، عن المرأة تأتي إلى من يطلق عنها السحر؛ فقالا : لا بأس ، وإنما وجه الكراهة إذا كان حله بأشياء غير شرعية، وقد يكون الرجل يحسن السحر في بدء حاله ، ثم يتوب، فلا بأس أن ينفع الناس بعلمه .
وقد روى عن أبي القاسم علي بن الحسن، عن أبيه قال : كانت امرأة تشتكي ، فقيل : هي مسحورة ، فقال : خذوا خردلا فذروه في الدار ففعلوا ، فلما كان بعد ساعة طلب الخردل،/ فلم يوجد ، فقال : فتشوا ! فإذا به قد اجتمع في حلقة الباب ، فحفر نحو ستة أذرع، وإذا صورة شمع مثل صورة المرأة المسحورة ، والله تعالى أعلم ]
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى يرفعه : "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم على رأسه بقرن (13) حين طب " (14) رواه أبو عبيد في غريبه، وقال ومعنى طب : أي سحر.
قال المؤلف : إنما احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ على رأسه] في هذه الحالة المذكورة في الحديث ، لأنه كان يخيل إليه أنه فعل الشئ وما فعله، وغير ذلك من / الخيالات التي حدثت له في تلك المدة، مما لا حقيقة لها؛ على ما روى عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما، لأنه ظن أن ذلك عن مادة دموية أو غيرها، مالت إلى جهة الدماغ، وغلبت على البطن المقدم منه، الذي هو مركز التخيل فحرفت مزاجه عن الحالة الصحية. واستعمال الحجامة على الرأس في مبدأ ذلك من أفضل المعالجة، إذا استعملت على القانون الطبي.
[ ولذلك قال ] أبقراط : الأشياء التي ينبغي أن تستفرغ ، يجب أن تستفرغ من المواضع التي هي إليها أميل ، بالأعضاء التي تصلح لاستفراغها ، وكانت هذه الحجامة قبل أن ينزل عليه الوحي في أمر نفسه ، فلما أتاه الملكان وأخبراه بأنه مسحور على ما ورد ذلك في الأسانيد الصحيحة، رجع عن التداي بالطب البشري، إلى الطب الألهي، وسأل الله سبحانه وتعالى في إزالة ما عرض له من ذلك ، ثم دعا ثم دعا ، إلى أن كشف الله ما به من السحر، وعافاه مما كان ابتلاه ، / وأطلعه على دائه من السحر، وما كان قد سحر به، والمكان الذي أودع فيه السحر، على ما جاء مبينا في الحديث الآخر.
قال القاضي عياض : قد جاءت روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما سلط على جسده وظواهر جوارحه ، لا على عقله وقلبه واعتقاده، وأنه كان في تلك المدة لا يعتقد صحة ما يتخيله، وكان اعتقاده فيها على السداد،/ وإنما كان سوء تخيله بالبصر، لا لخلل تطرق إلى قلبه وعقله صلى الله عليه وسلم .
وأما السحر وحقيقته ، وما ورد فيه ، فقد ذكرنا منه طرفا في شرح الحديث السابع والثلاثين من الأربعين الأولى ، فيعلم من هناك ، إن شاء الله تعالى .
ذكر عبد الرزاق ـ عن معمر ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ـ : "أن امرأة يهودية أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاة مصلية بخيبر، فقال : ما هذا ؟ قالت : هدية . وحذرت أن تقول : من الصدقة ؛ فلا يأكل منها . فأكل منها النبي صلى الله عليه وسلم وأكل الصحابة . ثم قال : أمسكوا . ثم قال للمرأة ؛ هل سممت هذه الشاة ؟ قالت : من أخبرك بهذا ؟ قال : هذا العظم ـ لساقها وهو في يده ـ قالت : نعم : قال : لم ، قالت : أردت إن كنت كاذبا : أن يستريح منك الناس، وإن كنت نبيا : لم يضرك . قال : فاحتجم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة على الكاهل وأمر أصحابه أن يحتجموا : فاحتجموا . فمات بعضهم " .
وفي طريق أخرى : " واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله، من أجل الذي أكل . من الشاة . حجمه أبو هند بالقرن والشفرة ـ وهو مولى لبني بياضة من الأنصار ـ وبقى بعد ذلك ثلاث سنين ، حتى كان وجعه الذي توفى فيه ، فقال : ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر، حتى كا، هذا أوان انقطاع الأبهر مني . فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدا" .
قال موسى بن عقبة : معالجة السم تكون يالاستفراغات ، وبالأدوية التي تعارض فعل السم وتبطله، إما بكيفياتها، وإما بخواصها. إذا كان البلد حارا، والزمان حارا . فإن القوة السمية تسري إلى الدم، فتنبعث في العروق والمجاري حتى تصل إلى القلب، فيكون الهلاك. فالدم هو المنفذ الموصل للسم إلى القلب والأعضاء. فإذا بادر المسموم وأخرج الدم : خرجت معه تلك الكيفية السمية التي خالطته. فإن كان استفراغا تاما : لم يضره السم، بل : إما أن يذهب، وإما أن يضعف فتقوى عليه الطبيعة، فتبطل فعله أو تضعفه.
ولما احتجم النبي صلى الله عليه وسلم : احتجم في الكاهل ـ وهو أقرب المواضع التي تمكن فيها الحجامة، إلى القلب ـ فخرجت المادة السمية مع الدم : لا خروجا كليا ؛ بل بقى أثرها مع ضعفه. لما يريد الله سبحانه : من تكميل مراتب الفضل كلها له .
فلما أراد الله إكرامه بالشهادة: ظهر تأثير ذلك الأثر الكامن من السم، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وظهر سر قوله تعالى لأعدائه من اليهود : {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون } ؛ فجاء بلفظ "كذبتم" بالماضي الذي قد وقع منه وتحقق، وجاء بلفظ "تقتلون" بالمستقبل الذي يتوقعونه وينتظرونه. والله أعلم .
وقد أنكر هذا طائفة من الناس ، وقالوا : لا يجوز هذا عليه ؛ وظنوه نقصا وعيبا. وليس الأمر كما زعموا ، بل هو من جنس ما كان يعتريه صلى الله عليه وسلم : من الأسقام والأوجاع وهو مرض من الأمراض، وإصابته به كإصابته بالسم : لا فرق بينهما.
وقد ثبت في الصحيحين ، عن عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : "سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إن كان ليخيل إليه أنه يأتي نساءه، ولم يأتهن " . وذلك أشد ما يكون من السحر.
قال القاضي عياض : " والسحر مرضي من الأمرضا، وعارض من العلل؛ يجوز عليه صلى الله عليه وسلم كأنواع الأمراض ؛ مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته. وأما كونه يخيل إليه أنه فعل الشئ ولم يفعله، فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شئ من صدقه؛ لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا. وإنما هذا فيما يجوز طرؤه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث لسببها، ولا فضل من أجلها؛ وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر. فغير بعيد: أنه يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له ، ثم ينجلي عنه كما كان " .
والمقصود ذكر هديه في علاج هذا المرض . وقد روى عنه نوعان :
أحدهما ـ وهو أبلغهما ـ : استخراجه وتبطيله ؛ كما صح عنه صلى الله عليه وسلم : " أنه سأل ربه سبحانه في ذلك ؛ فدل عليه . فاستخرجه من بئر. فكان في مشط ومشاطة، وجف طلعة ذكر. فلما استخرجه : ذهب ما به حتى كأنما نشط من عقال " . فهذا من أبلغ ما يعالج به المطبوب. وهذا بمنزلة إزالة المادة الخبيثة وقلعها من الجسد بالاستفراغ .
والنوع الثاني : الاستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر. فإن للسحر تأثيرا في الطبيعة وهيجان أخلاطها، وتشويش مزاجها؛ فإذا ظهر أثره في عضو، وأمكن استفراغ المادة الرديئة من ذلك العضو ـ : نفع جدا.
وقد ذكر أبو عبيد في كتاب "غريب الحديث" له ـ بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ـ : "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم على رأسه بقرن حين طب" ؛ قال أبو عبيد : "معنى (طب) أي : سحر".
وقد أشكل هذا على من قل علمه، وقال : ما للحجامة والسحر؟ وما الرابطة بين هذا الداء وهذا الدواء ؟ ولو وجدا هذا القائل أبقراط أو ابن سينا أو غيرهما ، قد نص على هذا العلاج ـ لتلقاه بالقبول والتسليم ؛ وقال : قد نص عليه من لا نشك في معرفته وفضله.
فاعلم أن مادة السحر الذي أصيب به النبي صلى الله عليه وسلم ، انتهت إلى رأسه : إلى إحدى قواه التي فيه ؛ بحيث كان يخيل إليه أنه يفعل الشئ ولم يفعله. وهذا تصرف من الساحر في الطبيعة والمادة الدموية : بحيث غلبت تلك المادة على البطن المقدم منه ، فغيرت مزاجه عن طبيعته الأصلية.
والسحر مركب من تأثيرات الأرواح الخبيثة ، وانفعال القوى الطبيعية عنها. وهو سحر التمريجات. وهو أشد ما يكون من السحر، ولا سيما في الموضع الذي انتهى إليه السحر. واستعمال الحجامة على ذلك المكان ـ الذي تضررت أفعاله بالسحر ـ من أنفع المعالجة : إذا استعملت على القانون الذي ينبغي. قال أبقراط : "الأشياء التي ينبغي أن تستفرغ يجب أن تستفرغ من المواضع التي هي إليها أميل ، بالأشياء التي تصلح لاستفراغها" .
وقالت طائفة من الناس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصيب بهذا الدواء ، وكان يخيل إليه أنه فعل الشئ ولم يفعله ـ : ظن أن ذلك عن مادة دموية أو غيرها، مالت إلى جهة الدماغ، وغلبت على البطن المقدم منه، فأزالت مزاجه عن الحالة الطبيعية له وكان استعمال الحجامة ـ إذا ذاك ـ من أبلغ الأدوية ، وأنفع المعالجة ؛ فاحتجم . وكان ذلك قبل أن يوحى إليه : أن ذلك من السحر . فلما جاءه الوحي من الله تعالى، وأخبره أنه قد سحرـ: عدل إلى العلاج الحقيقي، وهو استخراج السحر وإبطاله ، فسأل الله سبحانه: فدله على مكانه ، فاستخرجه . فقام كأنما نشط من عقال . وكان غاية هذا السحر فيه إنما هو في جسده وظاهر جوارحه، لا على عقله وقلبه. ولذلك لم يكن يعتقد صحة ما يخيل إليه : من إتيان النساء ؛ بل يعلم أنه خيال لا حقيقة له . ومثل هذا قد يحدث من بعض الأمراض. والله أعلم .
( فصل ) ومن أنفع علاجات السحر : الأدوية الإلهية ؛ بل هي أدويته النافعة بالذات. فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية. ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها ويقاومها : من الأذكار والآيات والدعوات ، التي تبطل فعلها وتأثيرها. وكلما كانت أقوى وأشد : كنت أبلغ في النشرة. وذلك بمنزلة التقاء جيشين : مع كل واحد منهما عدته وسلاحه؛ فأيهما غلب الآخر: قهره وكان الحكم له . فالقلب إذا كان ممتلئا من الله ، مغمورا بذكره ـ وله من التوجهات والدعوات ، والأذكار والتعوذات ؛ ورد لا يخل به يطابق فيه قلبه لسانه ـ : كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له ، ومن أعظم العلاجات له بعدما يصيبه .
وعند السحرة : أن سحرهم إنما يتم تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة، والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسفليات . ولهذا غالب ما يؤثر : في النساء والصبيان، والجهال وأهل البوادي، ومن ضعف حظه من الدين والتوكل والتوحيد ، ومن لا نصيب له من الأوراد الإلهية، والدعوات والتعوذات النبوية ، وبالجملة : فسلطان تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة، التي يكون ميلها إلى السفليات .
قالوا : والمسحور هو الذين يعين على نفسه ؛ فإنا نجد قلبه متعلقا بشئ، كثير الالتفات إليه ؛ فيتسلط على قلبه بما فيه : من الميل والالتفات. والأرواح الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لتسلطها عليها، بميلها إلى ما يناسب تلك الأرواح الخبيثة؛ وبفراغها من القوة الإلهية، وعدم أخذها للعدة التي تحاربها بها ؛ فتجدها فارغة لا عدة معها ، وفيها ميل إلى ما يناسبها؛ فتسلط عليها، ويتمكن تأثيرها فيها بالسحر وغيره . والله أعلم .
------------------------------
المراجع والهوامش
----------
1ـ أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة باب العجوة، والطب، باب الدواء بالعجوة للسحر، ومسلم في الأشربة ، باب فضل تمر المدينة، وأبو داود في كتاب الطب، باب في تمر العجوة رقم (3876) ، والإمام أحمد (1/181، 186) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9/345) ، وابن أبي شيبة في المصنف (7/376) ، والحميدي في المسند (70) ، وأبو نعيم في الطب النبوي ص 39 ، 95 .
2ـ لابتيها : أي : لابتي المدينة، وهما الحرتان، واقم والوبرة، أولاهما في شرق المدينة ، والثانية في غربها.
3ـ أخرجه الإمام البخاري في كتاب الأطعمة باب العجوة، فتح الباري (9/439) والطب باب الدواء بالعجوة للسحر، والإمام مسلم، في الأشربة، باب فضل تمر المدينة، والبيهقي في السنن الكبرى (9/345).
4ـ بيش : نبت هندي مشهور ، ينفع من البرص والجذام وفرط الرطوبات
5ـ الهندبا : صففان بري وبستاني، فالبري أعرض ورقا من البستاني، وأجود للمعدة منه، والبستاني منه صنفان : أحدهما : قريب الشبه من الخس عريض الورق، والآخر : أدق ورقا منه، وفي طعمه مرارة. أنظر الجامع لمفردات الأدوية والأغذية (4/504 ـ 506).
6ـ السلوى : هو طائر السماني، أو هو طائر أبيض مثل السماني.
7ـ اللبخ : شجر له ثمر أخضر شبيه بالتمر، حلو جدا، إلا أنه كريه جدا، وهو جيد لوجع الأسنان، والمعدة ، ويقطع الدم إذا جفف وسحق وذر على المواضع التي يسيل منها الدم، وزعم قوم أن هذه الشجرة كانت تقتل من قبل في بلاد فارس، وبعد نقلها لمصر صارت تؤكل ولا تضر، الجامع لمفردات الأدوية والأغذية (4/362) بتصرف.
8ـ رواه البخاري في المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ، والدارمي (1/38) في المقدمة ، باب في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، رقم (82) ، وأحمد (6/151، 161، 228) ، والحاكم (1/145) وقال : كلا الإسنادين صحيح على شرط الشيخين، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/42) رواه الطبراني في الأوسط والكبير وإسناده حسن. والبيهقي في السنن الكبرى (1/31) ، وابن خزيمة في صحيحه (258) ، وعبد الرزاق في مصنفه (179) .
9ـ الرتيلا : نوع من العناكب، وتسمى عقرب الحيات لأنها تقتل الحيات والأفاعي . حياة الحيوان للدميري (1/469).
10ـ أخرجه البخاري في النكاح باب الخطبة والطب (51) ، ومسلم في الجمعة باب من البيان سحرا، وأبو داود في الأدب (87) ، والترمذي في البر (81) ، والدارمي في الصلاة (199) ، والإمام مالك في الموطأ في الكلام (7)، والإمام أحمد في المسند (1/269، 303، 313، 327، 3/16) ، والحاكم في المستدرك (3/613) .
11ـ انظر إتحاف السادة المتقين (6/173) ، وكنز العمال رقم (430659) ، وتهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (3/22) ، وكشف الخفاء (1/472)
12ـ فعن عائشة رضي الله عنها قالت : سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم ، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشئ وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي لكنه دعا ودعا ، ثم قال : يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه ، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي ، فقال أحدهما لصاحبه : ما وجه الرجل ؟ فقال مطبوب ، قال : من طبه ؟ قال : لبيد بن أعصم ، قال : في أي شئ ؟ قال : في مشط ومشاطة وجف طلع نخلة ذكر، قال : وأين هو ؟ قال : في بئر ذروان ، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه فجاء فقال : يا عائشة كان ماؤها نقاعة الحناء، أو كأن رؤوس نخلها الشياطين، قلت : يا رسول الله أفلا أستخرجه ؟ قال : قد عافاني الله فكرهت أن أثور على الناس فه شرا ، فأمر بها فدفنت ، قال الليث وابن عيينة عن هشام : في مشط ومشاطة : يقال : المشاطة ما يخرج من الشعر إذا مشط ، والمشاطة من مشاقة الكتان . رواه البخاري في صحيحه ، كتاب الطب ، باب السحر ، وقوله تعالى : {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين } ومسلم في كتاب السلام ، باب السحر ، والإمام أحمد في مسنده (6/56، 63) .
13ـ قرناسم موضع ، وقيل : هو قرن ثور جعل كالمحجنة، وقرن البقرة وشاة قرناء، وقرنا الرأس : فوداء أي : ناحيتاه . الفائق (3/182)
14ـ أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/19) ، وفي البخاري بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم "احتجم بلحى جمل من طريق مكة وهو محرم في وسط رأسه " ، وفيه أيضا عن ابن عباس : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم في رأسه " كتاب الطب باب الحجامة على الرأس .
الأحكام النبوية في الصناعة الطبية (تحقيق د أحمد عبد الغني الجمل)
0 التعليقات:
إرسال تعليق