ومن أجل ذلك كانت سيرته من أجمل السير،وصفاته من أنبل الصفات، وأخلاقه من أعظم الأخلاق، وحياته من أروع الحياة وأوفاها وأشملها.
نعم إن التاريخ الإنساني على وجه الأرض لم يعرف عظيما من العظماء ولا زعيما من الزعماء ولا مصلحا من المصلحين استوعب في صفاته الذاتية والعقلية والنفسية والخلقية والدينية والروحية والاجتماعية والإدارية والعسكرية والتربوية ما استوعبه شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وما اختصه الله به من الكمالات التي تشرق في كل جانب من جوانبها وتضيء في كل لمحة من لمحاتها، حتى استحق أن يصفه الله عزوجل بالنور في مثل قوله تعالى (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين)(المائدة 15).
ولا عجب في ذلك، فقد أرسله الله للناس كافة، قدوة صالحة لهم،ورحمة للعالمين. وهو القائل عن نفسه (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).(الموطأ).
فرسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن بعثه الله عزوجل للناس نبيا ورسولا كانت حياته صورة صادقة للدين الذي جاء به من عند الله، وما أجمل ما وصفته عائشة رضي الله عنها حينما سئلت عنه، فقالت (كان خلقه القرآن).
أي أنه كان قرآنا حيا متحركا ملتزما بأحكامه ، عاملا بتوجيهاته، متبعا لهديه،ومنتهيا عند نهيه،يدعو إلى نوره، ويحتكم إلى شريعته،من أجل ذلك قال الله تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا)(الأحزاب 21).
فهو القدوة إلى الخير والأسوة بين الناس إلى رضوان الله.
وأيما دعوة من الدعوات، لا يتأتى لها النجاح والانتشار ما لم يكن لها من أصاحبها والداعين إليها قدوات صالحة في التطبيق العملي لتلك الدعوة في أخلاقهم وسلوكهم ومواقفهم في الحياة.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في ذلك فقد صنعه الله على عينه، وأدبه فأحسن تأديبه، وأعده لحمل رسالته وتبليغ دعوته وإخلاص العبودية لرب العالمين قال سبحانه: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم)(القلم 4).
وسيرته صلى الله عليه وسلم العطرة سجل حافل بالمآثر مليء بالمكرمات، مفعم بالفضائل، إنه كنز المواعظ والعبر،ومدخر الدروس التي تنبض بالنور،ترشد إلى الخير،وتوقظ الهمم، وتشحذ العزائم،وتذكي الإيمان، وترسم الطريق إلى مرضاة الله، وتضع المعالم أمام الدعاة والمصلحين،وتجسم القيم العليا والمبادئ الرفيعة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم،واقعا محسوسا،وحياة كريمة فاضلة.
فما نقرأه عما ينشر عنه في العالم الآخر من معلومات مغلوطة وكاذبة وذلك باتهامه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - بأنه رجل حرب ونهب وسلب، وأنه كان غليظ القلب، وأن الدين الذي جاء به دين العنف والرهبة والقتال، وصار بعض الرموز عندهم يُنعتون بأنهم رجال المحبة والرحمة والسلام، وتناسى الناس في زحمة الكذب الإعلامي والتزوير في الحقائق التاريخية والدينية والثقافية شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك الشخصية التي نالت القدر الأوفى من كل الشمائل والخصال النبيلة، والقيم الإنسانية العليا.
لقد كان ميلاد محمد -صلى الله عليه وسلم- إيذاناً ببدء ثورة شاملة، حررت الإنسان والزمان والمكان، ورفعت عنها إصر عبوديات وأغلال كثيرة كانت تعيق انطلاقها جميعاً، فأخذ الإنسان حريته بيده، وصاغ هوية زمانه ومكانه صياغة جديدة، فجرت عناصر الخير في كل شيء، كان احتجاجاً قبلياً على كل عناصر الخير، فوقف الإنسان على ربوة التاريخ يسدّد خطواته نحو الأشرف والأفضل، ووقف المكان ليُلهم ويحتضن وينبت الأروع والأنصع، ووقف الزمان ليفسح ويتيح للأكمل والأشمل!
ولد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسّم وثناء
ولقد شكلت شخصية محمد -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- الرجل الذي اكتملت فيه كل الأخلاق الحميدة، وانتفت منه كل الأخلاق الذميمة، ولذلك خاطبنا الله بقول: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة). والمطّلع على سيرة النبي محمد -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- يدرك أنها كانت حقيقة تاريخية لا تجد الإنسانية غيره قدوة حسنة تقتدي بها، وهي تتلمس طريقها نحو عالم أكمل وأمثل، وحياة فُضلى، ومن الطبيعي ألا تجد الإنسانية مثلها الأعلى في شخصيات وهمية، وإلا فهي تضلّ طريقها المستقيم وتسير مقتدية بالخيال والأوهام، فمن حقنا إذاً أن نتخذ من سيرة النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- نموذجاً لسلوكنا في حياتنا.
وحياة محمد -صلى الله عليه وسلم- تكشف أمامنا المثلى الأعلى في جميع أحوال الحياة؛ في السلم والحرب، في الحياة الزوجية، مع الأهل والأصحاب، في الإدارة والرئاسة والحكم والسياسة، في البلاغ والبيان، بل في كل أوجه الحياة. فمحمد -صلى الله عليه وسلم- هو المثل الكامل.
ولن تجد الإنسانية في غيره مثلاً حياً لها؛ فسيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- حقيقة تاريخية، يصدّقها التاريخ الصحيح ولا يتنكر لها، وهي سيرة جامعة محيطة بجميع أطوار الحياة وأحوالها وشؤونها، وهي سيرة متسلسلة لا تنقص شيئاً من حلقات الحياة، وهي أيضاً سيرة عملية قابلة للتطبيق، ذلك أن ما كان يدعو إليه محمد -صلى الله عليه وسلم- في القرآن والحديث كان يحققه بسيرته أولاً، وهذا ما شهد به معاصروه، فقالت عائشة -رضي الله عنها- وقد سئلت عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم: «كان خلقه القرآن».
فهو قدوة الرجال وحبيب الله ورحمة العالمين وأساس سلم العالم محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
محمد الرحمة المهداة:
إن رحمة النبي -صلى الله عليه و سلم- بُعد مهم في شخصيته، وفي دعوته، ومن صميم شخصيته رسولاً ونبياً ومبلغاً عن ربه وهادياً للناس. وحينما نقرأ قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ونقف أمام الآية ندرك سعة رحمة هذا النبي الكريم، وكيف كان صلى الله عليه وسلم يفيض رحمة في خلقه وسلوكه وأدبه وشمائله. وإنه لتناسب وتآلف في أرقى مستوياته بين الرسالة والرسول في هذه الرحمة، حتى لا يُتصور أن يحمل عبء بلاغ هذه الرحمة إلى العالمين إلا رسول رحيم ذو رحمة عامة شاملة فياضة طبع عليها ذوقه ووجدانه، وصيغ بها قلبه وفطرته..(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) [التوبة: 128]. فهو مثل أعلى للرحمة الإلهية لذلك وصفه الله تعالى بأنه رؤوف رحيم.
لقد أرسله الله تعالى رحمة للعالمين.. رحمة شاملة للوجود بأجمعه. يستطيع المؤمنون الاستفادة من الرحمة التي كان يمثلها النبي -صلى الله عليه و سلم- ذلك لأنه (بالمؤمنين روؤف رحيم) ويستطيع الكافرون والمنافقون أيضاً -إلى جانب المؤمنين - الاستفادة من هذه الرحمة كذلك. فعندما قيل له: ادع على المشركين قال صلى الله عليه وسلم: "إني لم أُبعث لعانًا، وإنما بُعثت رحمة".
كما أن رحمته شملت أسرته وأمته وأصحابه، فقد كان صلى الله عليه وسلم خير الناس وخيرهم لأهله وخيرهم لأمته، من طيب كلامه، وحُسن معاشرة زوجاته بالإكرام والاحترام، حيث قال عليه الصلاة والسلام: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي". كما أنه في تعامله مع أهله وزوجه كان يُحسن إليهم، ويرأف بهم ويتلطّف إليهم ويتودّد إليهم، فكان يمازح أهله ويلاطفهم ويداعبهم. كما كان يعين أهله ويساعدهم في أمورهم ويكون في حاجتهم، وكانت عائشة تغتسل معه صلى الله عليه وسلم من إناءٍ واحد، فيقول لها: (دعي لي)، وتقول له: دع لي.
وكان صلى الله عليه وسلم رحيماً بالجميع، بل إنه يسمع بكاء الصبي فيسرع في الصلاة مخافة أن تفتتن أمه. و كان صلى الله عليه وسلم يمر بالصبيان فيسلم عليهم. وجاء الحسن والحسين، وهما ابنا ابنته وهو يخطب الناس فجعلا يمشيان ويعثران فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر، فحملهما حتى ووضعهما بين يديه، ثم قال صدق الله ورسوله(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [لأنفال:28] نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان فيعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما.
فرحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- جعلته لطيفاً رحيماً، فلم يكن فاحشاً ولا متفحّشاً، ولا صخّاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح. بل إن سيدنا أنس -رضي الله عنه- يقول: "خدمت النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، والله ما قال أفّ قط، ولا قال لشيء لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا" ، وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادماً له، ولا امرأة ولا ضرب بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله". وفي رواية "ما ضرب رسول الله شيئًا قط بيده ولا امرأة ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله" .
ولذلك قال فيه القرآن الكريم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وشاورهم في الأمر) [آل عمران:159] ، فقد كان منهجه الرحمة بالعباد والتخفيف من الإصر والغلال التي عليهم، وهو في هذا يقول صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) .
وتتجلّى رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالمذنبين، وبمن لا يعرفون كيف تقضى الأمور فيعفو ويصفح ويعلم، عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مَه مَه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (لا تزرموه، دعوه) ، فتركوه حتى بال ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن" قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنّه عليه".
كانت رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل غضبه، بل إنه في الحرب كان يقاتل بشجاعة، ولكنه أيضاً كان صاحب شفقة عظيمة، كان سياسياً، ولكنه في الوقت نفسه صاحب مروءة كبيرة وقلب كبير. ففي غزوة أحد استشهد عمه حمزة أسد الله ورسوله رضي الله عنه، ومُزّق جسده تمزيقاً. كما مُزّق جسد ابن عمته عبد الله بن جحش تمزيقاً. وشُجّ رأسه المبارك صلى الله عليه وسلم، وكُسِرت رباعيّته، وغطّى الدم جسده الشريف.
وبينما كان المشركون جادّين في حملتهم لقتله كان أكثر رحمة بهم، وكان يدعو: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". فهل يوجد أرحم من محمد في مثل هذه اللحظات.
وفي فتح مكة كيف تعامل مع من أخرجوه وظاهروا على إخراجه وإيذائه؟ وكيف تعامل مع من حاصروه في شعب أبي طالب وتسببوا في وفاة أحب زوجاته إليه خديجة الكبرى رضي الله عنها، وفي وفاة عمه أبي طالب؟ فكيف كانت معاملته لأهل مكة بعد كل هذا التاريخ المملوء عداوة وبغضاً؟
لقد دخل مكة بعشرة آلاف مقاتل، دخل على مركبه، والدرع على صدره، والمغفر على رأسه، والسيف في يده، والنبال على ظهره، ولكنه مع كل مظاهر لباس الحرب هذه كان أنموذجاً للرحمة.
سأل أهل مكة: «ما ترون أني فاعل بكم؟» فأجابوه: "خيراً أخٌ كريمٌ وابن أخ كريم" فقال لهم ما قاله يوسف عليه السلام لإخوته: (لا تثريبَ عليكم اليوم يَغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) (يوسف: 92) لقد قال لهم: "اذهبوا فأنتم الطُلَقاء".
هذا هو محمد النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذه رحمته التي شملت كل الناس، واستمرت دستوراً هادياً إلى أن تقوم الساعة، وليست تلك الرحمة الكاذبة التي تأتي ردود أفعال من أناس يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، كما أنها ليس تلك الرحمة ذات الوجهين التي تُطبّق على البعض، ويُحرم منها البعض، كما نراه في كثير من الشخصيات والنظم والقوانين الدولية والمحلية، التي تحاكم آخرين وتستثني آخرين. أو تلك المؤسسات والشخصيات التي ترأف وترحم الحيوان، ولكنها تشرّع لظلم الإنسان لأخيه الانسان.
أم لم يعرفوا رسولهم؟
يقول الله تعالى في محكم تنزيله: (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون) [المؤمنون: 69]، هذه الآية تشكل في الحقيقة مسوغًا هاماً لنا في تناول شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك أن معرفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سيرته وفي سنته وفي شمائله من أهم الأمور التربوية التي تساعدنا على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم. فإنه لا توجد سيرة أخرى أجدى بأن تُقتدى ويُحتفل بها مثل سيرته صلى الله عليه وسلم. وفي تاريخ البشرية كلها لا نجد حياةً نُقلت إلينا تفاصيلها، وحُفظت لنا وقائعها في وضوح كامل، وتفصيل عميم شامل كما حُفظت، وكما نُقلت إلينا حياة محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- رسول الله ورحمته المهداة إلى الناس أجمعين، فكل كلمة قالها، وكل خطوة خطاها، وكل بسمة تألّقت على محيّاه، وكل دمعة تحدرت من مآقيه، وكل مسعًى سار لتحقيقه، وكل مشاهد حياته حتى ما كان منها من خاصة أمره، وأسرار بيته، وأهله، نُقل إلينا موثّقاً بأصدق ما عرف التاريخ الإنساني من توثيق وتدوين.
ولا عجب في هذا، فمادام الله قد اختاره ليختم به النبوة والأنبياء، فمن الطبيعي أن تكون حياته منهجاً جليلاً لأجيال لا منتهى لأعدادها، وأن تكون هذه الحياة بكل تفاصيلها أشد وضوحاً، وتألقاً من فلق الصبح ورابعة النهار، لا بالنسبة إلى عصره فحسب، بل بالنسبة إلى كل العصور والأجيال.
إن حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وشمائله، وجوانب شخصيته، ونتائج دعوته درس لكل سالك إلى طريق الله، وكل قائد أو مربٍّ أو رب أسرة أو سالك أي سبيل من سبل الخير إلى أن ينقطع الزمان.
و أهم أبعاد شخصيته صلى الله عليه وسلم، هو المحبة. فكيف كان النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل محبة؟ وما هي الجوانب التي شملها هذا الخلق العظيم؟ وما موقفنا نحن تجاه محبته؟
منهجه يدعو إلى مجتمع المحبة:
إنها لصورة قاتمة باهتة مخيفة تلك التي رسمها البعض للإسلام في أذهان الناس حتى صار الناس يخافون من الدين ومن التدين؛ لأنهم يظنونه شيئاً قاسياً لا يرحم، وأتباعه غلاظ لا يلينون، وأحكامه سيف قاطع على الرؤوس.
وقد استثمر البعض الموقف، واتهموا النبي -صلى الله عليه وسلم- والإسلام بالحقد والكراهية، وكل أوصاف التجهم والتعصب والعنف، حتى لكلأنها صارت حقيقة، وأُسقط في أيدينا، وظن بعضنا أن هذا الزيف حقيقة.
ولكن الحقيقة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نور يُستضاء به في ظلام الجاهلية، ومحبة خالصة تؤلف بين القلوب، وأن الإسلام شمس مضيئة أنارت ظلام الجاهلية، وهو دين الحب والأمل و الحياة واليسر، و شرائعه هي شرائع الحق والعدل، وأحكامه هي أحكام الحياة.
وللقيمة الرفيعة لخلق الحب والمحبة في الحياة، وأهميته في تحقيق السعادة للفرد والأسرة والمجتمع والأمة والإنسانية، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- سعى لتحقيقه بوسائل متعددة، وربّى أصحابه وأمته على هذه النفسية الراقية، وحث على إشاعته بين الناس، ببناء كل العلاقات على أساس من الحب؛ حبّ الله، وحب الخير، وحب الصلاح والصالحين، وحب الإنسانية.
وبعبارة أخرى فإن نهجه صلى الله عليه وسلم، وحياته كلها دعوة للتحابب. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه مسلم في كتاب الإيمان: "لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا. أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم".
وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أيضاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل. وشاب نشأ بعبادة الله. ورجل قلبه معلّق في المساجد. ورجلان تحابّا في الله: اجتمعا عليه وتفرّقا عليه. ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله. ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله. ورجل ذكر الله خالياً، ففاضت عيناه". فمن الناس الذين يصلون إلى تلك المرتبة العالية يوم القيامة (ورجلان تحابا في الله) فاجتمعا على حب الله وافترقا على حبه. بمعنى أن سبب اجتماعهما حب الله، واستمرا على ذلك حتى قضى الله أمراً كان مفعولاً فتفرّقا بموت أو سفر أو غيره، وهما صادقان في حبّ كل واحد منهما صاحبه لله تعالى، حال اجتماعهما وافتراقهما.
ليس هذا فحسب، بل إن شرائع الإسلام وأحكامه كلها دعوة للمحبة، فالزكاة مثلاً التي هي قرينة الصلاة وجوباً وأهمية، فإن المستفيد منها وهو الفقير يشعر بأنه ليس وحده في المجتمع، وإنما هو فرد في جماعة لا تنساه وتكفله، ومن هنا تتلاشى الأحقاد وتنبت المحبة والألفة، وهكذا تكون الجماعة كالجسد الواحد، الغني يدفع من مال الله الذي عنده فيجد البركة والنماء، والفقير يتناول رزق ربه فيسدّ حاجته، والمجتمع ينقى ويطهر من الأمراض الخبيثة.
ولهذا فإن حب الخير للناس مما يقوم عليه ويتقوى به إيمان المؤمن، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن رجلاً لم يعمل خيراً قط، وكان يداين الناس، فكان إذا أرسل غلامه للتقاضي يقول له: خذ ما تيسر، واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا، فلما هلك سأله الله تعالى: هل عملت خيراً قط؟! قال: لا إلا أنني كنت أداين الناس فكنت أقول لغلامي: خذ ما تيسر واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا، فقال الله له: قد تجاوزت عنك".
فهذه العلاقة بين المؤمن والمؤمن يحرص عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنها تهب الجماعة المسلمة قوتها وصلابتها؛ فلا تهون ولا تتفتت ولا تعبث بها الفتن، فيقول صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"، ويقول صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، فإن كل مؤمن هو لبنة في بناء المجتمع، يدخل الإيمان بينه وبين غيره كالمونة اللاصقة الجاذبة الموضوعة بين لبنات البناء، فيشتد البناء ويقوى وترتفع هامته، ثم إن من فيض الإيمان تنبعث الرحمة الهادية، التي ترجو ما عند الله، وإنه لحق، حيث يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة". ذلك هو الحب الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- لبناء المجتمع عليه.
النبيّ الإنسان المحبّ:
وإذا التفتنا إلى حياته الخاصة صلى الله عليه وسلم في بيته ومع أولاده وأهل خاصته وجدناه المثل الأعلى في الحب والود والشفقة. فكان صلى الله عليه وسلم يحب الأطفال، ويقبّل أولاده، ويعطف عليهم، ويأمر بالمساواة في المحبة بينهم، كما كان يحب أهله وزوجاته، وهو القائل: "حبب إليّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء، وجُعلت قرة عيني في الصلاة".
لقد كان صلى الله عليه وسلم يحترم ويود ويحب زوجاته، ويقدر مشاعرهن بطريقة لا يرقى إليها أي من المحبين الذين ادّعوا أو أحبّوا أهليهم وأولادهم.
لقد كان قدوة، بل خير قدوة صلى الله عليه وسلم، فقد كان يعيش بين أزواجه رجلاً ذا قلب وعاطفة ووجدان، حياته مليئة بالحب، والحنان، والمودة، والرحمة.
ومما يذكر أنه كان مع عائشة -رضي الله عنها- التي يحبها كثيراً، يراها تشرب من الكأس فيحرص كل الحرص على أن يشرب من الجهة التي شربت منها، وهي صورة يندر أن يقوم به مدّعو الحب بيننا، إنه حب النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- للصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما.
ومِن تودّده لها وزيادة في حبها أنه كان يسابقها في وقت الحرب، يطلب من الجيش التقدم لينفرد بأم المؤمنين عائشة ليسابقها ويعيش معها ذلك الحب الزوجي الراقي.
وفي المرض، حين تقترب ساعة اللقاء بربه وروحه تطلع إلى لقاء الرفيق الأعلى، لا يجد نفسه إلا طالباً من زوجاته أن يمكث ساعة احتضاره صلى الله عليه وسلم إلا في بيت عائشة، ليموت ورأسه على صدرها، ذاك حبّ أسمى وأعظم من أن تصفه الكلمات أو تجيش به المشاعر.
إنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرسم لنا طريقاً للحب فريداً من نوعه أوسع مما حصرته فيها مفاهيمنا المادية العلمانية التي تضيّق علينا واسعاً وتحرمنا من مشاعرنا. ولذلك فهو في حبه هذا لعائشة -رضي الله عنها- لا يجعله هذا الحب أن ينسى أو يتناسى حبه العظيم الخالد لخديجة الكبرى التي كانت أحب أزواجه إليه، والتي قدمت له في ساعة العسرة ما لم يقدمه أحد آخر.
وفي لحظة شعور امرأة تسأله السيدة عائشة -رضي الله عنها- وتقول: ما لك تذكر عجوزاً أبدلك الله خيراً منها (تعني نفسها)؟! فيقول لها: لا والله، ما أبدلني زوجاً خيراً منها، ويغضب لذلك، ويبين لها أن حب خديجة لم يفارق قلبه أبداً، ذلك هو الحب الوفي الذي يريد أن يعلمنا إياه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنه يعلمنا أنه يحب عائشة، ولكن يحب أيضاً خديجة -رضي الله عنها- كما يحب زوجاته الأخريات رضي الله عنهن.
ومما تذكره كتب السيرة أنه صلى الله عليه وسلم حج بنسائه، فلما كان في بعض الطريق نزل رجل فساق بهن فأسرع، فقال النبي كذلك، سوقك بالقوارير –يعني النساء– فبينما هم يسيرون برك لصفية بنت حيي جملها، وكانت من أحسنهن ظهراً، فبكت وجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أخبر بذلك، فجعل يمسح دموعها بيده، وجعلت تزداد بكاء وهو ينهاها.
إنه لموقف جميل من الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- مع زوجته حين مسح دمعتها بيده، ثم أمر الناس بالوقوف والنزول، علماً بأنه لم يكن يريد أن ينزل. لم يحقر النبي -صلى الله عليه وسلم- مشاعر صفية وعواطفها، بل احترمها وأنزل القافلة كلها من أجلها. فكم منا من رجل مسح دموع زوجته وطيب خاطرها!
إنه محمد النبي الحبيب -صلى الله عليه وسلم- مسح الدمعة بيده، ومرّر يده الكريمة على خد زوجته في قمة من مشاعر الحب والاحترام والعناية والتقدير لعواطف المرأة ومشاعرها. والذين يتفاخرون اليوم من الغربيين ومن العلمانيين باحترام المرأة لم يبلغوا ولن يبلغوا ما قام به محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم بن محمد:
لقد ابتلي النبي -صلى الله عليه وسلم- بما لم يبتل به أحد، ولكنه كان المثل الأعلى في الاحتساب والصبر، وحين مات ابنه إبراهيم عليه السلام، اهتزت مشاعر الأبوة والحب، فيبكي ويحزن "إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع، وإنا يا إبراهيم على فراقك لمحزنون". يعلمنا عليه الصلاة والسلام كيف يكون الحب، وكيف يكون الحزن على فراق الحبيب، ولكن كل ذلك في حدود ما يرضي الله تعالى. إنهما حب وحزن نابعان من أب نبي بشر تتجلى فيه أعلى معاني الحب والرحمة والشفقة على فراق الأحبة، ولكنه حب لا ينسيه أنه مبلّغ عن الله، وأنّ أمانة الرسالة أعظم الأمانات. ولذلك حينما كسفت الشمس وظن بعض الناس أنها لموت إبراهيم، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تنكسفان لموت أحد أو حياته".
ويمتد حبه لأمته صلى الله عليه وسلم التي كان يبكي من أجلها في هدأة الليل، فقد كان يقف في سكون الليل وظلمته الحالكة ليصلي صلاة التائب على الرغم من أنه غُفر له ما تقدم وما تأخر من ذنبه، وكان في ذلك الليل يتذكر أمته ويسكب عليها الدموع، ويسأل الله: "أمتي، أمتي".
حاجة البشرية والحضارة للحبّ:
فقد تفقد الحياة كرامتها وقداستها حينما تتحول كل المعاني والقيم والعلاقات إلى أشكال وماديات ومظاهر.
ولفقدان الحب صار يُحتفل به مثل ما يُحتفل بأي شيء آخر، ويخصص له يوماً، وكأن بقية الأيام ليست للحب، وفيه يتذكر العشاق بعضهم بعضاً من خلال تبادل الهدايا والبطاقات، أو أي شيء مادي، وصارت تنفق أموال طائلة في مناسبة عيد الحب، بل إن من الناس من يفلس بهذه المناسبة.
وارتبط الحب في بعض المفاهيم بالجنس والعري وتبادل الغراميات المحرمة، أو تلك التعبيرات المزيفة الجافة الفارغة من أي معنى.
ولكن الحب الحقيقي الذي جاء محمد -صلى الله عليه وسلم- لتعليمنا إياه هو ذلك الحب المرتبط بالله تعالى وبنهجه في الحياة، وبما ارتضاه من علاقات ومعانٍ وقيم وتعبيرات عن المشاعر.
ونختم بهاتين الآيتين المعبرتين عن عمق الحب وأهمية ارتباطه بالله تعالى. يقول الله تعالى:(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة...)[الروم:21] ويقول عز وجل: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) [آل عمران: 31].
السلم والسلام في شخصه صلى الله عليه وسلم:
وفي هذه الفقرة من المقال نتناول السلم والسلام في شخصه -صلى الله عليه وسلم- وفي سيرته ودعوته والدين الذي جاء به، ليدرك القارئ الكريم أن السلم والسلام – بلغة العصر- كان مشروعاً إستراتيجياً للنبي -صلى الله عليه وسلم- شاملاً للأشخاص والأزمان والأمكنة، ولم يكن إجراءات مرحلية، او تخطيطاً وقتياً لتفادي مشكلات معينة، بل لكي يدخل الناس (في السلم كافة) [البقرة: 208] ويعمّ السلام بأن (يكون الدين لله) الذي هو دين الإسلام والسلم، ذلك أن (الدين عند الله الإسلام)، ورب العباد يدعو إلى السلام، قال تعالى: (والله يدعو إلى دار السلام) [يونس: 25].
السلم مبدأ ومسلك وغاية:
إنّ الإسلام دين السلم وشعاره السلام، فبعد أن كان عرب الجاهلية يشعلون الحروب لعقود من الزمن من أجل ناقة أو نيل ثأر ويهدرون في ذلك الدماء، جاء الإسلام وأخذ يدعوهم إلى السلم والوئام، ونبذ الحروب والشحناء التي لا تولّد سوى الدمار والفساد.
ولذلك فإن القرآن جعل غايته أن يدخل الناس في السلم جميعاً، فنادى المؤمنين بأن يتخذوه غاية عامة، قال الله -عز وجل- مخاطباً أهل الإيمان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) [البقرة: 208]، بل إن من صفات المؤمنين أنهم يردون على جهالات الآخرين بالسلم، فيكون السلم هنا مسلكاً لردّ عدوان الجاهلين، قال تعالى: (...وإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَما). ذلك أن مسلك السلم لا يستوي ومسلك العنف، ومسلك العفو لا يستوي ومسلك الانتقام، ومسلك اللين لا يستوي ومسلك الشدة والغلظة، ولذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو ويوصي دائماً أصحابه بالدفع بالتي هي أحسن، والإحسان إلى المسيئين، مصداقاً لما قال تعالى موصياً سيد الخلق أجمعين -صلى الله عليه وسلم-: (...وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) كما أنهم دعوا إلى الجنوح للسلم فقال تعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) وشجع القرآن المسلمين على التزام السلم – وهذا وقت الحرب- وطالبهم بتلمّس السلم إن وجدوا رداً إيجابياً من الطرف الآخر، فقال تعالى: (فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا).
لا إكراه في الدين: سلم دون تلفيق:
الإسلام رسالته واضحة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان واضحاً وسيبقى دينه واضحاً للعالمين، بأن هناك فرقاً بين احترام حرية الآخرين في اختيار ما يعتقدون، وبين التلفيق بين الأديان، أو قبول أديان الضلالة.
فالإسلام متناسق وواضح ومنسجم مع منطقه الداخلي ومع الحقيقة الموضوعية، ولذلك فإنه لا يقبل التلفيق بين الأديان، فالإسلام هو الحقيقة المطلقة، ولا يقبل بحال من الأحوال قبول العقائد الأخرى في منطق الإسلام، كما أن التأكيد على التمايز بين الحق والضلال واضح في منهجه -صلى الله عليه وسلم- وذلك في سورة الكافرون حيث يقول تعالى:(قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عباد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين)، ولكن في الوقت نفسه لا يصح بحال من الأحوال إجبار وإكراه الآخرين على قبوله، ولذلك بيّن القرآن الكريم أن (لا إكراه في الدين) لأنه (تبين الرشد من الغي).
بل إن القرآن نفسه به آيات كثيرة تدعو إلى احترام عقائد الآخرين حتّى ولو كانت فاسدة وغير صحيحة، وذلك لسماحة الإسلام حتى في مقابل أصحاب العقائد الضالّة التي لا قداسة لها في نظر الإسلام. فأمرنا الله تعالى بعدم إيذاء غير المسلمين وإثارتهم وإهانة دينهم أو أديانهم عبر سبّ آلهتهم فقال سبحانه: (وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْم)، بل دعانا إلى اتخاذ مسلك آخر أكثر إيجابية ومبدئية، وهو منهج الإحسان والدعوة بالحسنى بدل السبّ والشتم والشحناء؛ لأنه مناقض لمنهج الاسلام وغايته في تحقيق السلم، فقال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُو أعلم بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُو أعلم بِالْمُهْتَدِين).
صفح من أجل السلم:
من أجل تحقيق رسالته في السلم فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا مسلكاً مهماً آخر لتحقيق السلم، وذلك من خلال حثّنا على الصّفح وغضّ النظر عن إساءة الآخرين. ووضع القرآن الكريم لذلك آيات بينات تُعدّ دستورا يقول تعالى: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). [التغابن: 14]، وقال سبحانه: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ). [النور: 22]، وقال تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الُْمحْسِنِينَ) [المائدة: 13]، وقال عزوجل: (وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتية فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [الحجر: 85]، وقال سبحانه: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الزخرف:89] ، وقال تعالى: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِه) [البقرة: 109]. هذا بالإضافة إلى الآيات التي تدل على الغفران والغضّ عن السيئة والمحبة والإحسان وما أشبه.
ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- نموذجاً وقدوة في الصفح والعفو من أجل السلم مبدأ وغاية، لقد كانت المرحلة المكية من الدعوة النبوية فترة عصيبة أُوذي فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- في شخصه الكريم، وفي أهل بيته وفي صحابته، ولكنه لم يكن يرد الإيذاء، بل كان يردّ رداً جميلاً، فحين كان أبو لهب يرميه بالحجارة، وأم جميل تلقي في طريقه الأشواك، وبعض الكفار يلقي سَلَى الشاة على رأسه وهو قائم يصلي عند الكعبة، وبعضهم يبصق في وجهه الطاهر الشريف، وأبو جهل يشج رأسه وغيرها، كان صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون"، ثم إنه لما انتصر على قوى الكفر والطاغوت ورجع إلى مكة فاتحاً كان أرحم بأهلها من الأم بولدها، وحقق السلم المطلق فلم تُرق قطرة دم في فتح مكة، ولما قال بعض أصحابه: "اليوم يوم الملحمة" قال: "بل اليوم يوم المرحمة"، وخاطب أهل مكة قائلاً: "ما تظنون أني فاعل بكم"، وقد أقدره الله عليهم، قالوا: "أخ كريم وابن أخ كريم"، فقال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وكان يوماً سجله التاريخ في تحقيق الفتح بالسلم، فهل هناك سلم مثل سلم محمد صلى الله عليه وسلم.
الحج دورة مكثفة لتعلم السلم:
هناك صلة رائعة بين خليل الله إبراهيم عليه السلام أبي الأنبياء، وبين الحج وبين الإسلام وبين السلام. فالإسلام دين الحنيفية السمحة، وهو ملة أبينا إبراهيم، وهو الذي سمّانا المسلمين من قبل، وهو الذي أذن في الناس بالحج، فكان محمد -صلى الله عليه وسلم- النبي الخاتم الذي اكتملت على يديه الرسالة واختتمت النبوة وتمت به النعمة.
والعجيب في الأمر أن شعيرة الحج مرتبطة أيضا بتقديم الأضحية التي هي حيوان يقدم قربانا لله تعالى، وهي سنة سنها أبونا إبراهيم الخليل فدية عن ابنه إسماعيل الذبيح عليهما السلام.
وكأن الله تعالى يعلمنا أن الحنيفية السمحة جاءت لتحقيق السلم من خلال تخليص بني البشر من سفك الدماء وقتل النفس وافتدائها بالذبح العظيم الذي أمر الله تعالى به.
ول قد رسّخ الإسلام شعائر الحج ورتبها بطريقة تجعل الحاج في سلم شامل، ليس مع الناس فقط، بل مع كل شيء؛ الشجر والحجر والحيوان ومع الكون كله، تسليماً لرب العالمين.
إن الحج تجربة تمثّل ورشة مكثفة للتدريب على الشحن الروحي والتعبئة على السلم والتدريب على محاربة نوازع النفس السيئة. وإن الأضحية التي يقدمها الحاج والطواف بالبيت العتيق تمثل شعيرة خالدة تعبر عن ذلك الإعلان العالمي الإبراهيمي بالتوقف عن تقديم القرابين البشرية، وتوديع عقلية العالم القديم، في حل المشاكل بالعنف، لذا كان الحج في ترميزه المكثف، تدريباً سنوياً لشحن الانسان بالروح السلامية، فالمظهر متشح بالبياض، والكعبة أصبحت بيت الله الحرام، فيحرم ممارسة العنف بكل أشكاله وامتداداته، فلا جدال في الحج، الجدال بمعنى التنازع والتوتر، وينعم الجميع ببحيرة للسلام في أرض غير ذي زرع، ويأمن الطير والدواب والإنسان على أنفسهم من العدوان، بعد أن كان الناس يُتخطّفون من حولهم، ويمتد السلام من النفس إلى البدن فلا يُنتف الشعر أو تُقص الأظافر، وينتهي بتدشين تجربة على ظهر الأرض، سنوية لا تقبل الإلغاء أو التأجيل، للسلام الزماني المكاني، في البيت الحرام من خلال الأشهر الحرم.
إن الحج يعلمنا أن العالم كله ينبغي أن يتحول إلى حرم آمن في كل وقت، ولذلك يأتي هذا التدريب السنوي لملايين من البشر على تحقيق مطلق السلم مع كل المخلوقات في البلد الأمين في الأشهر الحرم.
كما أنه يعلمنا السعي لتحقيق السلام العالمي من خلال هذه التجربة الإنسانية الفريدة، التي يتم فيها التدريب سنوياً على السلام والسلام المطلق مع المكان والزمان والكائنات، وهو بذلك يذكرنا أننا يبنبغي أن نوسع من هذه الورشة والدورة المكثفة وننقلها إلى المستوى الإنساني الأوسع، بتبني الأسلوب السلمي في بقية الأماكن وبقية الأوقات ومع مختلف القضايا.
الجهاد مسلك لتحقيق السلم:
معنى الجهاد:
الجهاد كلمة شاملة تعني لغوياً الجد والمبالغة وبذل الوسع والمجهود والطاقة كما في قوله تعالى: (والذين لا يجدون إلاّ جهدهم). وتعني دينياً تحقيق الإيمان الحقيقي وما يتمخّض عنه، ومقارعة كل ما يبغضه الله من كفر وانحلال وفسوق، ومن ثم قال ابن تيمية: "الجهاد حقيقة الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان" (كتاب العبودية، ص104). وقد وردت كلمة الجهاد في القرآن الكريم في مواضع كثيرة،، ومما ورد في القرآن الكريم من استخدام لكلمة (جهاد) قوله تعال: (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات، وأولئك هم المفلحون) [التوبة: 88]، وقوله: (يا أيها النبي جاهد الكفّار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنّمُ وبئس المصير) (التوبة، 72)، وقوله: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم جهاداً كبيراً) [الفرقان: 52].
أهميّة الجهاد في منهج نبي الرحمة والمحبة والسلام:
إن الجهاد في معنى القتال هو أحد المسالك التي سنها النبي -صلى الله عليه وسلم- بوحي من الله تعالى من أجل أن يعم السلام وينتشر الخير ويدفع تسلط الطواغيت والظلمة والكافرين، إنقاذاً للمظلومين، وتحقيق لحرية الناس وحقهم في العيش في امن وسلام، وقد أمر الله تعالى نبيه الكريم بجهاد الكفار والمنافقين بوقله: (يا أيّها النبي جاهد الكفّار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنهم وبئس المصير)، وقوله تعالى: (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهُم لعلهم ينتهون)(التوبة: 12)، كما أمرنا أن نعد العدة من أجل ردع الظالمين وإرهابهم حتى لا يروّعوا الآمنين، فقال تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل تُرهبون به عدوّ الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم).[ الأنفال: 60].
كما ربط الله تعالى بين القتال وبين ذكر الله تعالى، فقال عز وجل: (يا أيّها الذين آمنوا إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون) [الأنفال: 45]، وحرّم الله استدبار العدو الكافر بقوله: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولُّوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلاّ متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواهُ جهنم وبئس المصير). [الأنفال: 15-16]، داعياً إلى بذل الغالي والنفيس من أجل تحقيق السلم الذي يأتي من خلال انتشار معاني حب الله والجهاد في سبيله، وإلى تفضيل ذلك على الآباء والأبناء والأموال والعشيرة على الدنيا الفانية والشهوات والهوى، فقال عز من قائل: (قُل إن كان آباؤكُم وأبناؤُكُم وإخوانُكُم وأزواجُكم وعشيرتُكُم وأموالٌ اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكنُ ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتّى يأتي الله بأمره واللهُ لا يهدي القوم الفاسقين)[ التوبة: 24].
وقد وهب الله سبحانه المجاهدين درجات عليا وجزى المستشهدين في سبيله جزاءً أوفى قائلاً بمنح الجنة للمجاهدين في سبيله بأموالهم وأنفسهم: (إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنّة) [التوبة: 111]، ومبشراً الشهداء بأنهم أحياءٌ عند ربهم يرزقون: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يُرزقون) [آل عمران: 169]، (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون) [البقرة:154] كل هذا ليس رغبة في القتال من أجل القتال، وليس رغبة في سفك الدماء، ولكنه دفع للعدوان حينما تنتفي الدوافع والمسالك السلمية لتحقيق السلم، وأن يكون الدين لله. ولذلك فإن الله تعالى يشدد على المؤمنين بأن يكون جهادهم على وعي تام بمبادئه وغاياته، فلا قتال لمن أراد السلم، قال تعالى: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا) [النساء: 94]، وقال تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) [الأنفال: 61]، كما أن المنهج النبوي يؤكد عدم العدوان بقوله تعالى: (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) [النساء: 90] لأن القتال يكون لمن بدأ بالعدوان ومن أجل إنهاء العدوان فقط، قال تعالى: (فقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) وقال سبحانه: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم) [الممتحنة: 8].
لماذا جاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
كما سبق القول فإن الإسلام دين محمد -صلى الله عليه وسلم- ومنهجه لم يفرض الجهاد رغبة في السيطرة والتوسع، أو كسباً للمنافع الدنيوية، أو إرغاماً للناس على تركهم عقائدهم السابقة والدخول في الدين الجديد، أو حبّاً في إظهار القوة والتفوق الحربي، وإنما شُرع دفعاً للظلم، ومقاومة للباطل ومقارعة للكفر، ونشراً للعدل والحرية والسلام عن طريق كسر الأطواق المضروبة حولها، وتحقيقاً لأهداف الدعوة إلى الله، ودفاعاً عن الأعراض والأوطان والأموال.
والمتتبع لسيرته صلى الله عليه وسلم يجد أنه ما قاتل إلا لتحقيق السلم ونشر العدل وبناء الأخوة بين الناس من خلال رد العدوان وكسر طوق الظالمين. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أُخرجوا من ديارهم بغير حق، فأمرهم الله تعالى بقتال من يعتدي عليهم، وبإخراج من يحاول إخراجهم من ديارهم وأراضيهم، (وأخرجوهم من حيث أخرجوكم) [البقرة:191]، ولكن في إطار العدل والسلم كمسلك وغاية، فقال تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين] [البقرة: 190].
كما أن الجهاد شُرع لفتح الطريق أمام الفضيلة والخير والعدل والسلم إذا وقف أهل الباطل في طريق السلام العالمي، ومن أجل أن تتحقق الحرية والأمن والسلام للمستضعفين في الأرض، قال تعالى: (ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرّجال والنساء والولدان، الذين يقولون ربّنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلُها وأجعلْ لنا من لدنك وليّاً واجعل لنا من لدنك نصيرا) [النساء: 75].
وبما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء رحمة للناس كافة، كما قال تعالى: (وما أرسلناك إلاّ كافةً للنّاس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون). [سبأ: 28]، وأرسل دينه رحمةً لجميع مخلوقاته، وهذه هي بعض دوافع شرع الجهاد، وهي واضحة في أنها مسلك لتحقيق السلم وفتح الآفاق أمام الناس حتى لا تكون هناك فتنة أو سفك للدماء بغير وجه حق. فني الله محمد صلى الله عليه وسلم بحق رجل المحبة والرحمة والسلام.
المراجع:
1- خاتم النبيين لمحمد أبي زهرة.
2- السيرة النبوية الصحيحة للدكتور أكرم ضياء العمري.
0 التعليقات:
إرسال تعليق