هدايا الأحياء
للأموات
بقلم
سماحة الدكتور / محمد بن علوي المالكي الحسني
خادم العلم الشريف بالبلد الحرام
الفهرس
قوله تعالى : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى )
تحليل نفيس لشارح العقيدة الطحاوية
وقوله سبحانه وتعالى : ( ألا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى )
إذا مات ابن آدم انقط عمله إلا....
القراءة على الميت فعل السلف
أقوال أئمة المذاهب الفقهية
أقوال الأئمة من فقهاء الأحناف
أقوال أئمة الفقه المالكي
ثم ذكر أقوال كبار أئمة الشافعية
أقوال أئمة الحنابلة وحفاظ مذهبهم
توثيق النصوص الفقهية من مذاهب العلماء في الموضوع
(1) توثيق نصوص مذاهب الحنفية
(2) توثيق نصوص مذهب المالكية :
(3) توثيق النووي لنصوص الشافعية :
(4) توثيق نصوص مذهب الحنابلة :
كلام نفيس للشيخ ابن القيم
تحقيق الشيخ ابن تيمية في الموضوع
القراءة عند القبر ليست بدعة
نصوص فقهية في المسألة
التلقين
رأي الشيخ ابن تيمية
كلام ابن القيم
الاجتماع للتعزية في بيت الميت
سورة الفاتحة ويس لأموات المسلمين
معنى الإختيار والتفضيل
فضل سورة الفاتحة
فضل سورة يس
فضل سورة الملك
فضل لا إله إلا الله
الخاتمة
قصر الأمل وذكر الموت
معنى تذكر الموت
معنى كراهية الموت
المرض نذير الموت
المحتضر
النياحة والبكاء
تمني الموت
الموت والغسل
التشييع والدفن
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الناشر
الحمد لله خالق الموت والحياة لنرى فيها عظيم قدرته ورحمته .
وصلى الله تبارك وتعالى على سيدنا محمد وآله القائل في حديثه الشريف : ( الميت في قبره كالغريق ينتظر دعوة تلحقه من ابنه أو أخيه أو صديقه ، فإذا لحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها ) .
وبعد :
فهذا الكتاب يدور حول مسألة اختلفت فيها أقوال العلما وهي : ( وصول ثواب ما يهدى إلى الموتى من الأعمال الصالحة وانتفاعهم بها ثم ما يتعلق بذلك من مسائل أخرى مثل حكم القراءة للأموات والجلوس والتعزية وفضائل بعض السور وغير ذلك ) .
ويرجع اختلافهم في هذه المسألة إلى اختلافهم في تأويل قوله تعالى :( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) .
فمنهممن يتمسك بظاهر الآية فينفي انتفاع الميت بشيء ،
ومنهممن يرى أنها حكاية عن شريعة سابقة ففلا تلزم في شريعتنا فيكون قبول عمل الغير من خصائص هذه الأمة ،
ومنهم من يتأول ( الإنسان) بأنه الكافر وأما المؤمن فله سعيه وما يسعى له غيره .
ومنهم من تأولها بأنه ليس له إلا ما سعى عدلا وله من الله الكريم ما سعى غيره فضلاً ....الخ ، وقد بين المؤلف ( أكرمه الله تعالى ) في هذا البحث أدلة وصول ثواب ما يهدى إلى موتى المسلمين وأنا ثابتة في شريعتنا جملة وتفصيلاً ، وقد بذل في ذلك جهداً ملحوظاً معتمداً على الكتاب والسنة ومستنيراً بأقوال علماء الأمة سلفاً وخلفاً ومنهم ابن تيمية وتلميذه ابن القيم .
مع توجيه المراد من الآية الكريمة وكذلك حديث : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ..... ) ثم ذكر أقوال العلماء في حكم قراءة القرآن وإهداء ثوابها للميت ورجح المختار من ذلك بعيداً عن التعصب والشطط ، والله نسأل أن ينفع بهذا البحث وأن يجعله سبباً في تبديد ظلمات الخلاف من صدور الأحياء وهدية ورحمة للأموات من المسلمين والمسلمات ، وبالله التوفيق .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد فهذه رسالة تحتوي على بحوث علمية مهمة في وصول ثواب القراءة للأموات وغيرها من الأعمال الصالحة وما يتعلق بذلك من التلقين والجلوس للعزاء . نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع بها وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم ، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه إنه سميع قدير وبالإجابة جدير وهو حسبنا ونعم الوكيل . وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ، وصلى الله وسلم على خاتم رسله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتبه الفقير إلى الله تعالى
السيد / محمد بن علوي المالكي الحسني
خادم العلم الشريف بالبلد الحرام
قوله تعالى : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى )
هذه الآية الكريمة من النصوص المهمة التي يتمسك بها كثيرون ممن يجرون وراء ظواهر الألفاظ وعمومات النصوص المطلقة دون مراعاة للأصول والقرائن الأخرى التي تفيد تخصيصاً أو تقييداً للنص ، والتي يجب أن لا تفهم النصوص العلمية إلا بها لتدور جميعاً في فلك واحد وتأتي متناسبة مترابطة في نسق واحد يليق بصاحب الشريعة المحفوظ من التناقض والتعارض إذ لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى .
فظاهر هذه الآية يفيد نفي انتفاع الميت بأي شيء بعد موته لأنه ما أثبت له إلا ما سعى فيه ، ومحل سعيه هو الدنيا ، لكن هناك نصوص أخرى تثبت انتفاعه بغير سعيه كما سيأتي في هذا البحث ، ولذلك فإن المحققين من علماء السنة وخصوصاً المنصفين من أئمة السلفية مثل الشيخ ابن تيمية وابن القيم الذين فهموا الآية هذا الفهم الصحيح أثبتوا انتفاع الميت بعمله وعمل غيره وبينوا معنى الآية والتوفيق بينها وبين النصوص الأخرى الواردة في هذا الموضوع .
قال العلامة الشيخ فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي في شرحه على كنز الدقائق في باب الحج عن الغير : أما قوله تعالى : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) .
فقد قال ابن عباس إنها منسوخة بقوله تعالى :
( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ) الآية ، وقيل هي خاصة بقوم موسى وإبراهيم عليهما السلام لأنه وقع حكاية عما في صحفهما لقوله : ( أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ) وقيل أريد الإنسان الكافر واما المؤمن فله ما سعى أخوه . وقيل ليس له من طريق العدل وله من طريق الفضل ، وقيل اللام في الإنسان بمعنى على كقوله تعالى : ( وإن أسأتم فلها ) أي عليها ، وكقوله تعالى : ( لهم اللعنة ) أي عليهم .
وقيل ليس له إلا سعيه لكن سعيه قد يكون بمباشرة أسبابه بتكثير الإخوان وتحصيل الإيمان حتى صار ممن تنفعه شفاعة الشافعين ، وأما قول النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ) فلا يدل على انقطاع عمل غيره ، والكلام فيه وليس فس شيء مما يستبعد عقلاً لأنه ليس فيه إلا جعل ماله من الأجر لغيره والله تعالى هو الموصل إليه وهو قادر عليه ولا يختص ذلك بعمل دون عمل . اهـ
تحليل نفيس لشارح العقيدة الطحاوية
ذكر الشيخ ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية مسألة انتفاع الميت بعمل غيره مما لم يتسبب فيه ورجح القول به وذكر الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس عليه ثم قال في الجواب عن الآية التي يتمسك بظاهرها المانعون :
والجواب عما استدلوا به من قوله تعالى : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) وقد أجاب العلماء بأجوبة : أصحها جوابان :
أحدهما : أن الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء ، وأولد الأولاد ، ونكح الأزواج ، وأسدى الخير ، وتودد إلى الناس ، فترحموا عليه ودعوا له ، وأهدوا له ثواب الطاعات ، فكان ذلك أثر سعيه ، بل دخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه ، في حياته وبعد مماته ، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم .
يوضحه : أن الله تعالى جعل الإيمان سبباً لانتفاع صاحبه بدعاء إخوانه من المؤمنين وسعيهم ، فإذا أتى به فقد سعى في السبب الذي يوصل إليه ذلك .
الثاني : وهو أقوى منه أن القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره ، وإنما نفى ملكه لغير سعيه ، وبين الأمرين من الفرق ما لا يخفى ، فاخبر تعالى أنه لا يملك إلا سعيه ، وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه فإن شاء أن يبذله لغيره وإن شاء أن يبقيه لنفسه .
وقوله سبحانه وتعالى : ( ألا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) آيتان محكمتان تقتضيان عدل الرب تعالى :
فالأولى : تقتضي أنه لا يعاقب أحداً بجرم غيره ، ولا يؤاخذه بجريرة غيره كما يفعله ملوك الدنيا .
والثانية : تقتضي أنه لا يفلح إلابعلمه لينقطع طمعه من نجاته بعمل آبائه وسلفه ومشايخه ، كما عليه أصحاب الطمع الكاذب ، وهو سبحانه لم يقل لا ينتفع إلا بما سعى .
إذا مات ابن آدم انقط عمله إلا....
ومن النصوص المهمة المتصلة بالآية الكريمة الحديث الصحيح المشهور : عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: قال : ( إذا مات أحدكم انقطع عمله إلامن ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له )
وقد شرح هذا الحديث سيدي الوالد الإمام علوي بن عباس المالكي الحسني – رحمه الله ، فقال : ( إذا مات ابن آدم ... ) اعلم أن انقطاع ذات العمل بالموت أم ظاهر إذ الميت لا يعمل ولا
يكلف بعد الموت ، وإنما المقصود : أن بعض الأعمال تستمر آثارها حتى بعد الموت فلا ينقطع أجرها بتكرار ذلك ، ولذا قال : ( إلا من ثلاث ) أي من خصال ثلاث :
(صدقة جارية ) : أي غير منقطعة كحفر بئر ، ووقف مصحف ، وبناء مسجد ورباط .
وقوله : ( أو علم ينتفع به ) يعني به العلم الشرعي : الذي ينتفع به ، ويترتب عليه الفوز بالنعيم المقيم والنجاة من العذاب الأبدي ، ويدخل في ذلك : تأليف الكتب ووقفها . لأن المراد مطلق الانتفاع : بالمباشرة والتسبب .
وقوله : ( أو ولد صالح ) أي مسلم ( يدعوا له ) : لأنه من كسبه . وقد تفضل الله تعالى بكتابته مثل ثواب سائر الحسنات التي يعملها الأولاد دون آثام السيئات . وبما تقرر ، علم أنه لا حصر في هذه الخصال الثلاث : لأن مفهوم العدد غير حجة أو لأنه عليه الصلاة والسلام اطلع على الثلاث ثم أطلعه الله على الزائد : فضلاً منه وإحساناً . لما أخرج بن ماجة عن أبي هريرة رضي الله – تعالى – عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته : علماً نشره ، وولداً صالحاً تركه ، ومصحفاً ورثه ومسجداً بناه ، وبيتاً لابن السبيل بناه ، ونهراً أجراه ، وصدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته " .
فهذا الحديث احتوى على سبع خصال تضم إلى الثلاث الأول : تبلغ عشراً . وقد زاد السيوطي عليها واحدة أيضاً . وقد نظم بذلك بقوله :
وإذا مات ابن آم ليس يجري
عليه – من خصال – غير عشر
علوم بثها ، ودعاء نجل
وغرس النخل ، والصدقات تجري
وراثة مصحف ورباط ثغر
وحفر البئر ، أو إجراء نهر
وبيت للغريب بناه يأوي
إليه أو بناء محل ذكر
وتعليم لقرآن كريم
فخذها من أحاديث بحصر
تخريج ما ورد في هذه الأبيات :
أما قوله ( علوم بثها ودعاء نجل والصدقات تجري ) فهذا جاءت مجموعة في الحديث الصحيح المشهور
( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلامن ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ) واما قوله ( غرس النخل وحفر بئر ) فقد جاء ذكرهما في حديث أنس مرفوعاً ( سبع يجري أجرها للعبد بعد موته وهو في قبره – وذكر منها حفر البئر أو غرس النخل ) رواه أبو نعيم في الحلية .
وأما قوله ( محل ذكر ) فهو المسجد ، وقد تقدم ذكره في حديث ( إن مما يلحق المؤمن ... ) الحديث .
قال ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية :
وأما استدلالهم بقوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله ) فاستدلال ساقط ، فإنه لم يقل انقطع انتفاعه ، وإنما أخبره عن انقطاع عمله ، وأما عمل غيره فهو لعامله ، فإن وهبه له وصل إليه ثواب عمل العامل ، لا ثواب عمله هو ، وهذا كالدين يوفيه الانسان من غيره ، فتبرأ ذمته ، ولكن ليس له ما وفى به الدين اهـ .
القراءة على الميت فعل السلف
وربما يقول متنطع ممن يتشبث بأذيال العدم لرد كل مسألة وإنكار كل جديد بقوله لم يفعله السلف ولم يثبت ، وربما يقول هذا إن القراءة على الميت لم يفعلها السلف فنقول له :
( أولاً ) هذه الدعوى غير صحيحة ، لأنها كانت في زمان الإمام أحمد وهو من السلف ، وفي نفح الطيب في فوائد المقري الكبير أنه أنشد شيخه الآبلي قول ابن الرومي الشاعر المشهور :
أفنى وأعمى ذا الطبيب بطبه
وبكحله الأحياء والبصراء
فإذا مررت رأيت من عميانه
أمما على أمواته قراء
فاستفاد منه قدم القراءة على الأموات .
( ثانياً ) لو سلم عدم فعل السلف لها لا يلزم منه المنع الخاص للمدعي ، فعدم فعلهم لها ليس بدليل ، وليس كل شيء من مسائل الفروع لم يفعله السلف يكون محظوراً ، ومن ادعى ذلك فعليه الدليل ولا سبيل إليه .
( ثالثاً ) قد ثبت في الحديث الصحيح أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ، وثبت أيضاً تعذيب الأموات في قبورهم كقوله تعالى : ( النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ) وكحديث وضع عليه السلام الجريدتين على قبرين وأخبر ( أنه يخفف عنهما ما دامتا رطبتين ) أخرجه الشيخان .
وأصحاب السنن الأربعة ، وابن خزيمة ، وأخرج الإمام مالك في موطئه والبخاري في الادب المفرد ، ومسلم ، وأبو داو ، والنسائي ، والترمذي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أ, ولد صالح يدعو له ، أو علم ينتفع به ) ووردت أحاديث كثيرة بخصال غير هذه الثلاث يلحق ثوابها الإنسان بعد موته تتبعها الحافظ السيوطي فبلغت إحدى عشرة خصلة ونظمها في الأبيات السابقة .
وأخرج الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله تعالى ) وكون الأموات يعذبون في قبورهم ويتألمون من سوء أعمال أقربائهم الأحياء ، وينتفعون بما يسديه الأحياء إليهم شيء لا يأتي عليه الحصر من الأحاديث والآثار عن السلف ، ذكر بعضاً من ذلك ابن كثير في تفسير سورة الروم عند قوله تعالى : ( فإنك لا تسمع الموتى ) .
( رابعاً ) القراءة على الأموات أمر بها النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده ،وأبو داود ،والنسائي ، وابن حبان ، وصححه عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( اقرءوا
يس على موتاكم ) قال النووي رحمه الله تعالى في كتابه ( الأذكار ) ما نصه : قال العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم يجوز ويستحب العمل في الفضائل والترغيب والترهيب بالحديث الضعيف مالم يكون موضوعاً اهـ ( قلت ) : فسكوت الإمام أبي داود عن تضعيفه يدل على أنه صالح وأنه لا يبعد عن درجة الحسن لغيره ، وأقل ما يقال فيه أنه نافع للعمل به دافع لاعتراض المعترض أو إنكار المنكر لذلك العمل . خصوصاً وأنه قد جرى عليه عمل الفقهاء في كثير من الأمصار سلفاً وخلفاً واشتهر بين الناس – كما قرر ذلك الشيخ ابن القيم في كتاب الروح كما سيأتي – وغيره من أئمة السلف .
والحديث الضعيف – إذا جرى عليه العمل – تقوى وانتهض وصار له مزية على غيره ويستأنس به أهل الاعتبار والنظر ، ويفرحون للعمل به ويعتبرون ذلك داخلاً في دائرة السنة النبوية ولا يبادرون إلى الإنكار أو الحكم بالبدعة والضلالة والمخالفة .
وشواهد هذا كثيرة في كتب السنة المشرفة . وممن يعتني به الإمام الحافظ الترمذي ، فإنه في كتاب السنن كثيراً ما ينقل أحاديث ويحكم عليها بالضعف ثم يقول بعد ذلك : ( وقد عمل قوم من أهل العلم بهذا الحديث ) كما قال في حديث أبي سعيد في دعاء الإستفتاح ( أبواب الصلاة / باب ما يقول عند افتتاح الصلاة ) جـ 1 ص 276 وكما قال في حديث علي في ميراث الإخوة من الأم وهو ضعيف .
( والعمل على هذا الحديث عند عامة أهل العلم ) كتاب الفرائض / باب ما جاء في ميراث الإخوة جـ4 ص 30 وكما قال في حديث تميم الداري في ميراث المشرك الذي يسلم على يد رجل من المسلمين – أنه أولى .
( فالحديث فيه ضعيف ولكن العمل عليه عند بعض أهل العلم ) جـ4 ص 38 وكما قال قي حديث أنس بن مالك في الصلاة على الدابة في ماء وطين وهو ضعيف ( والعمل على هذا عند أهل العلم ) أبواب الصلاة / باب ما جاء في الصلاة على الدابة في الطين والمطر جـ1 ص 421 .
وكما قال في حديث أبي هريرة في قضاء صلاة ركعتي الفجر بعد طلوع الشمس . وهو ضعيف : ( والعمل على هذا عند بعض أهل العلم ) أبواب الصلاة / باب ما جاء في إعادتها بعد طلوع الشمس جـ 1 ص 433 . والحاصل أن هذا الحديث صالح للعمل به ومقبول في هذا الباب .
وقال الإمام أحمد في المسند أيضاً : حدثنا أبو المغيرة حدثني صفوان يعني ابن عمرو حدثني المشيخة أنهم حضروا عضيف الحارث الثمالى حين اشتد سوقه ، فقال : هل منكم من يقرأ يس ، قال : فقرأها صالح بن شريح السكوتي فلما بلغ أربعين قبض ، قال : فكانوا يقولون : إذا قرئت ( يعني يس ) على ميت خفف عنه بها . وأسنده صاحب مسند الفردوس إلى أبي الدرداء بلفظ : ( ما من ميت تقرأ عنده يس إلاهون الله عز وجل عليه ) قال محب الدين الطبري : المرد الميت الذي فارقته روحه وحمله على المحتضر قوله بلا دليل اهـ .
وأخرج ابن حبان في صحيحه عن جندب بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : ( البقرة سنام القرآن وذروته ، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً واستخرجت ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) من تحت العرش فوصلت بها ، ويس قلب القرآن لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له ، واقرءوها على موتاكم ) اهـ .
أقوال أئمة المذاهب الفقهية
وقد عقد العلامة الفقيه الحنبلي الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد – رحمه الله – فصلاً خاصاً في كتابه ( غاية المقصود ) جمع فيه أقوال العلماء من كل مذهب في إثبات وصول الثواب إلى الأموات من أي عمل صالح يقوم به الحي وهب به ثوابه إلى الأموات كالحج ، والصدقة ، والأضحية ، والعمرة وقراءة القرآن ، ولا شك أنه يدخل فيه الأذكار من تهليل وتكبير وصلاة وسلام على سيدنا محمد – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فهي كلها أعمال صالحة يثاب عليها العامل بها ، وإذا وهب ثوابها للميت تقبل الله منه ذلك وأوصله إليه ، وإذا وصل إليه انتفع به .بفضل الله وكرمه وإحسانه
فنقل الشيخ ابن حميد
أقوال الأئمة من فقهاء الأحناف مثل:
الشيخ برهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني في كتابه : ( الهداية في باب الحج عن الغير ) .
والشيخ شمس الدين أبي العباس أحمد بن إبراهيم ابن عبد الغني السروجي في كتابه ( نفحات النسمات في وصول إهداء الثواب للأموات ) .
والبدر العيني في باب الحج عن الغير من شرح الكنز .
وابن عابدين في رد المحتار على الدر المختار .
وصاحب الفتاوي الهندية ، في الفتاوي الهندية الباب الرابع عشر في الحج عن الغير .
وصاحب الهداية في بيان أحكام الحج عن الغير .
والشيخ علي قاري في شرح المنسك المتوسط .
ونقل أقوال أئمة الفقه المالكي وحفاظ المذاهب في الموضوعات مثل :
الإمام ابن رشد في نوازله .
والعلامة الشهاب القرافي في الفرق الثاني والسبعون والمائة .
وابن الحاج في الجزء الأول من المدخل .
والشيخ أبي زيد الفاسي في باب الحج عن الغير .
والحطاب في شرحه علي خليل .
ثم ذكر أقوال كبار أئمة الشافعية مثل :
العلامة الشربيني في كتاب السراج المنير .
والنووي في روضة الطالبين وشرح مسلم .
والسيوطي .
والسبكي ،
وابن الصلاح في الفتاوي ،
والشيخ أبي المعالي على بن أبي السعود الشهير بالسويدي في كتابه(العقد الثمين في بيان مسائل الدين) .
وابن النحوي في المنهاج .
وشيخ الإسلام أبي عبد الله القاياتي في الروضة .
ثم ذكر أقوال أئمة الحنابلة وحفاظ مذهبهم .
وبدأه بقول الإمام أحمد : الميت يصل إليه كل شيء من الخير من صدقةأو صلاة أو غيره ،
ثم ذكر كلام الموفق ابن قدامة في المغني وهو طويل ونفيس .
ثم قال في العدة شرح العمدة : وأما قراءة القرآن وإهداء ثوابه للميت فالإجماع واقع على فعله من غير نكير وقد صح الحديث : أن الميت ليعذب ببكاء اهله ، والله سبحانه وتعالى أكرم من أن يوصل إليه العقوبة ويحجب عنه المثوبة ، قلت : ويدل على هذا أيضاً قوله – صلى الله عليه و على آله وسلم - : لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ، لأنه أول من سن القتل ، فإذا كان هذا في العذاب والعقاب ففي الفضل والثواب أولى وأحرى .
توثيق النصوص الفقهية من مذاهب العلماء
في الموضوع
(5) توثيق نصوص مذاهب الحنفية
قال الإمام العلامة المرغيناني في أول باب الحج عن الغير من هدايته ما نصه : ( الأصل في هذا الباب أن الإنسان له ان يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صوماً أو صدقة أو غيرها عند أهل السنة والجماعة ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أنه ضحى بكبشين أملحين أحدهما عنه نفسه والآخر عن أمته ممن أقر بوحدانية الله وشهد له بالبلاغ ) اهـ .
وقد كتب عليه المحقق الكمال بن الهام في فتح القدير كتابة مطنبة جيدة ، ملخصها أن المعتزلة خالفوا في كل العبادات : أي منعوا وصول ثوابها للغير وذكر شبهتهم وأجاب عنها وساق آثاراً دالة على الجواز ثم قال ما نصه : فهذه الآثار وما قبلها وما في السنة أيضاً من نحوها عن كثير قد تركناه لحال الطول يبلغ القدر المشترك بين الكل – وهوأن من جعل شيئاً من الصالحات لغيره نفعه الله به – مبلغ التواتر اهـ .
وقال العلامة عثمان بن علي الزيلعي الحنفي في شرحه على كنز الدقائق في باب الحج عن غيره أيضاً ما نصه : ( الأصل في هذا الباب أن الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره عند أهل السنة والجماعة صلاة أو صوماً أو حجاً أو صدقة أو قراءة قرآن أو الأذكار إلى غير ذلك من جميع أنواع البر ، ويصل ذلك إلى الميت وينفعه ) .
وقال العلامة الشيخ زين الدين المعروف باب نجيم والمشهور بأبي حنيفة الثاني ومحرر المذهب في البحر الرائق في باب الحج عن الغير : لما كان الحج عن الغير كالتبع آخره ، والأصل فيه أن الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صوماً أو صدقة أو قراءة القرآن أو ذكراً أو طوافاً أو حجاً أو عمرة أو غير ذلك عند أصحابنا للكتاب والسنة ، وأما الكتاب فلقوله تعالى : ( وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً ) و إخباره تعالى عن ملائكته بقوله : ( ويستغفرون للذين آمنوا ) وساق عبارتهم بقوله تعالى : ( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك ) إلى قوله :
( وقهم السيئات ) .
.....وأما السنة فأحاديث كثيرة منها ما في الصحيحين ، ثم ذكر الأحاديث الواردة في الموضوع .
وجزم البدر العيني في باب الحج عن الغير أيضاً من شرح الكنز ، بأن للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره من صلاة أو صوم أو حج أو صدقة أو قراءة قرآن أو ذكر إلى غير ذلك من جميع أنواع البر ، وكل ذلك يصل إلى الميت عند أهل السنة والجماعة اهـ . وللعلامة سعد الدين الديري المتوفي سنة 867 . ( الكواكب النيرات في وصول ثواب الطاعات إلى الأموات اقتفى فيه أثر السروجي مع زيادات عليه كثيرة اهـ .
(2) توثيق نصوص مذهب المالكية :
قال الإمام القاضي أبو الفضل عياض في شرحح على صحيح مسلم في حديث الجريدتين عند قوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – ( لعله يخفف عنهما مادامتا رطبتين ) ما نصه : أخذ العلماء من هذا استحباب قراءة القرآن على الميت لأنه إذا خفف عنه بتسبيح الجريدتين وهما جماد فقراءة القرآن أولى .
وقال العلامة الشهاب القرافي في الفرق الثاني والسبعين والمائة ما ملخصه : مذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل أن القراءة يحصل ثوابه للميت وإذا قرئ عند القبر حصل للميت أجر المستمع والذي يتجه أن يقال مالا يقع فيه خلاف أنه يحصل لهم بركة القرآن لا ثوابه ، كما سيحصل لهم بركة الرجل الصالح يدفن عندهم أو يدفنوه عندهم ، والذي ينبغي للإنسان أن لا يهمل هذه المسألة فلعل الحق هو الوصول إلى الموتى ، فإن هذه أمور مغيبة عنا وليس فيها اختلاف في حكم شرعي ، وإنما هو في أمر واقع ، هل هو كذلك أم لا . وكذلك التهليل الذي جرت عادة الناس بعمله اليوم ينبغي أن يعمل ويعتمد في ذلك على فضل الله بكل سبب ممكن ، ومن الله الجود والإحسان هذا هو اللائق بالعبد .
وقال الشيخ ابن الحاج في الجزء الأول من المدخل ما نصه : لو قرأ في بيته وأهدى إليه لوصلت ، وكيفية وصولها أنه إذا فرغ من تلاوته وهب ثوابه له ، أو قال : اللهم اجعل ثوابها له ، فإن ذلك دعاء بالثواب لأن يصل إلى أخيه والدعاء يصل بلا خلاف اهـ .
ونقل الشيخ أبو زيد الفاسي في باب الحج عن الغير في جواب له ما نصه : الميت ينتفع بقراءة القرىن وهذا هو الصحيح ، والخلاف فيه مشهور والأجرة عليه جائزة . والله أعلم ، نقله عنه الفقيه كنون الفاسي محشى عبد الباقي .
وفي آخر نوازل ابن رشد في لاسؤال عن قوله تعالى : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) قال : وإن قرأ الرجل وأهدى ثواب قراءته للميت جاز ذلك ، وحصل للميت أجره . اهـ .
وقال ابن هلال في نوازله : الذي أفتى به ابن رشد ، وذهب إليه غير واحد من أئمتنا بالأندلس أن الميت ينتفع بقراءة القرآن ويصل إليه نفعه ويحصل له أجره إذا وهب القارئ ثوابه له ، وبه جرى عمل
المسلمين شرقاً وغرباً ووقفوا على ذلك أو قافاً ، واستمر عليه الأمر منذ أزمنة سالفة اهـ .
ونقل العلامة الحافظ الشيخ عبد الرحمن الثعالبي في تفسيره ( الجواهر الحسان ) عند قوله تعالى : ( وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً ) عن الحافظ العلامة عبد الحق الإشبيلي في كتابه ( العاقبة ) ما نصه : واعلم أن الميت كالحي فيما يعطاه ويهدى إليه ، بل إن الميت أكثر وأكثر لأن الحي قد يستقل ما يهدى إليه ويستحقر ما يتحف به ، والميت لا يستحقر شيئاً من ذلك ولو كان مقدار جناح بعوضة أو وزن مثقال ذرة لأنه يعلم قيمته ، وقد كان يقدر عليه فضيعه وقد قال النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو ولد صالح يدعو له أو علم ينتفع به ) ، فهذا دعاء الولد يصل إلى والده وينتفع به وكذا أمره عليه الصلاة والسلام بالسلام على أهل القبور ، والدعاء لهم ، وما ذاك إلا لكون ذلك الدعاء لهم والسلام عليهم يصل إليهم ويأتيهم والله أعلم .
وروي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال : ( الميت في قبره كالغريق ينتظر دعوة تلحقه من ابنه أو أخيه أو صديقه ، فإذا لحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها ) ةالأخبار في هذا الباب كثيرة اهـ .
ثم قال الثعالبي : قلت : وروى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه أنه قال : ( كان يقال : إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده ، وأشار بيده نحو السماء )
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر : قد رويناه بإسناد جيد ، ثم أسند عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ( إن الله ليرفع العبد الدرجة فيقول : أي رب أنى لي هذه الدرجة ؟ فيقال : باستغفار ابنك لك ) اهـ من التمهيد .
وروينا في سنن أبي داود ( أن رجلاً من بني سلمة قال : يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما بعد موتهما ؟ قال : نعم ، الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما ، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما ) اهـ .
(6) توثيق النووي لنصوص الشافعية :
قال الإمام النووي : ويستحب للزائر – يعني زائر القبور – أن يسلم على المقابر ويدعو لمن يزوره ولجميع أهل المقبرة ، والأفضل أن يكون السلام والدعاء مما ثبت في الحديث ، ويستحب أن يقرأ من
القرآن ما تيسر ويدعو لهم عقبها . نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب .
(4) توثيق نصوص مذهب الحنابلة :
قال الإمام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة الحنبلي :
وأي قرابة فعلها وجل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك إن شاء الله تعالى .
أما الدعاء والاستغفار والصدقة وأداء الواجبات فلا أعلم فيه خلافاً إذا كانت الواجبات مما يدخله النيابة . وقد قال الله تعالى : ( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ) .
وقال الله تعالى : ( واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات )
ودعا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم – لأبى سلمة حين مات ، وللميت الذي صلى عليه في حديث عوف بن مالك ، ولكل ميت صلى عليه ، وسأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فقال -: يا رسول الله إن أمي ماتت فينفعها إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم ، رواه أبو داود وروى ذلك عن سعد بن عبادة .
وجاءت إمرأة إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالت : يا رسول الله إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الرحالة أفأحج عنه ؟ قال : ( أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته ) قالت : نعم قال ( فدين الله أحق أن يقضى ) وقال للذي سأله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأصوم عنها ؟ قال : ( نعم )
وهذه أحاديث صحاح وفيها دلالة على انتفاع الميت بسائر القرب لأن الصوم والحج والدعاء والاستغفار عبادات بدنية وقد أوصل الله تعالى نفعها للميت فكذلك ما سواها مع ما ذكرنا من الحديث في ثواب قراءة ( يس ) وتخفيف الله تعالى عن أهل المقابر بقراءته
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قال لعمرو بن العاص ( لو كان أبوك مسلماً فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك )
وهذا عام في حج التطوع وغيره ولأنه عمل وبر وطاعة فوصل نفعه وثوابه كالصدقة والصيام والحج الواجب ، وقال الشافعي ماعدا الواجب والصدقة والدعاء والاستغفار لا يفعل عن الميت ولا يصل ثوابه إليه لقوله تعالى : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) وقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( إذا مات ابن ادم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده أو ولد صالح يدعوله ) .
ولأن نفعه لا يتعدى ثوابه .
وقال بعضهم : إذا قرأ القرآن عند الميت أو أهدي إليه ثوابه كان الثواب لقارئه ويكون الميت كأنه حاضرها وترجى له الرحمة .
ولنا ما ذكرناه وأنه إجماع المسلمين فإنهم في كل عصر ومصر يجتمعون ويقرءون القرآن ويهدون ثوابه إلى موتاهم من غير نكير وان الحديث صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ) والله أكرم من أن يوصل عقوبة المعصية إليه ويحجب عنه المثوبة ولأن الموصل لثواب ما سلموه ، قادر على إيصال ثواب ما منعوه والآية مخصوصة بما سلموه ، وما اختلفنا فيه في معناه فنقيسه عليه ، ولا حجة لهم في الخبر الذي احتجوا به فإنما دل على انقطاع عمله ، فلا دلالة فيه عليه .
ثم لو دل عليه كان مخصوصاً بما سلموه وفي معناه ما منعوه فيختص به أيضاً بالقياس عليه ، وما ذكروه من المعنى غير صحيح فإن تعدى الثواب ليس بفرع لتعدي النفع ثم هو باطل بالصوم والدعاء والحج وليس له أصليعتبر به والله أعلم .
قال الإمام شمس الدين محمد بن مفلح المقدسي في كتابه الفروع : كل قربة فعلها المسلم وجعل ثوابها للمسلم نفعه ذلك وحصل له الثواب كالدعاء والاستغفار وواجب تدخله النيابة وصدقة التطوع وكذا العتق ذكره القاضي وأصحابه أصلاً وذكره أبو المعالي وشيخنا و صاحب المحرر ، وكذا حج التطوع .
في المجرد : من حج نفلاً عن غيره وقع عمن حج لعدم إذنه وكذا القراءة والصلاة والصيام نقل الكمال
في الرجل يعمل شيئاً من الخير من صلاة أو صدقة أو غير ذلك ويجعل نصفه لأبيه أو أمه : أرجو ، وقال : الميت يصل إليه كل شيء من الخير من صدقة أو صلاة أو غيره .
وقال الإمام برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح في متابه المبدع : ( وأي قربة فعلها ) من دعاء واستغفار وصلاة وصوم وحج وقراءة وغير ذلك ( وجعل ثواب ذلك للميت المسلم نفعه ذلك )
قال أحمد : الميت يصل إليه كل شيء من الخير للنصوص الواردة فيه ولأن المسلمين يجتمعون في كل مصر ويقرؤون ويهدون لموتاهم من غير نكير فكان إجماعاُ وكالدعاء والاستغفار حتى لو أهداها للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
جاز ووصل إليه الثواب ذكره المجد .
وقال الإمام أبو الحسن على بن سليمان المرداوي في كتابه الإنصاف : قوله ( وأي قربة فعلها وجعلها للميت نفع ذلك ) .
وهو المذهب مطلقاً ، وعليه جماهير الأصحاب ، وقطع به كثير منهم وهو من المفردات ، وقال القاضي في المجرد : من حج نفلاً عن غيره وقع عمن حج لعدم إذنه .
وقال شيخ الإسلام تقي الدين محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي : وسن ما يخفف عنه ولو بجعل جريدة رطبة في القبر وذكر قراءة عنده وكل قربة فعلها مسلم وجعل ثوابها لمسلم حي أو ميت حصل له ولو جهله الجاعل وإهداء القرب مستحب .
وقال العلامة الشيخ منصور البهوتي : وكل قربة فعلها مسلم وجعل ثوابها لمسلم حي أو ميت جاز ونفعه ، وذكر جملة الأعمال منها القراءة .
كلام نفيس للشيخ ابن القيم
قال الشيخ ابن القيم : والقائل إن أحدا من السلف لم يفعل ذلك قائل ما لا علم له به فإن هذه شهادة على نفي مالا يعلمه فما يدريه أن السلف كانوا يفعلون ذلك ولا يشهدون من حضرهم عليه بل يكفي إطلاع علام الغيوب على نياتهم ومقاصدهم ولا سيما وأن التلفظ بنية الإهداء لا يشترط كما تقدم ، وسر ذلك أن الثواب ملك للعامل فإذا تبرع به وأهداه إلى أخيه المسلم أوصله الله تعالى إليه ، فما الذي خص من هذا ثواب قراءة القرآن وحجر على العبد أن يوصله إلى أخيه .... ؟ ! قال : وأما السبب الذي لأجله لم يظهر ذلك من السلف فهو أنهم لم يكن لهم أوقاف على من يقرأو يهدي إلى الموتى ، ولا كانوا يعرفون ذلك البتة وإنما كانوا يقصدون القبر للقراءة عنده كما يفعله الناس اليوم ، ولم يكن أحدهم يشهد من حضره من الناس على أن ثواب هذه القراءة لقلان الميت – بل ولا ثواب هذه الصدقة أو الصوم ، ثم يقال لهذا القائل : لو كلفت أن تنقل عن واحد من السلف أنه قال : اللهم اجعل ثواب هذا الصوم لفلان لعجزت ، فإن القوم كانوا أحرص على كتمان أعمال البر ولم يكونوا ليشهدوا على الله بإيصال ثوابها إلى أمواتهم اهـ .
الخلاصة
قال شيخنا الإمام العلامة محمد العربي التباني المكي : وقد تحقق وتلخص من كلام العلماء أن أربعة يصل ثوابها للميت بالإجماع . وهي : الصدقة والدعاء والاستغفار وأداء الواجبات التي تقبل النيابة كأداء الدين عنه وأن الصوم يصح عنه ويصله ثوابه عند الإمام الشافعي في القديم وأبي ثور والمحققين من المحدثين ، ولعموم حديث عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أنه قال : ( من مات وعليه صوم ، صام عنه وليه ) .
وتحقق أيضاً أن القراءة على الأموات فعلها السلف الصالح كما هو مستفاد من كلام ابن قدامة ، وابن القيم وغيرهما من المنقول عن الأئمة الأقدمين من أهل الأثر كالخلال وغيره وأن عمل المسلمين شرقاً وغرباً لم يزل مستمراً عليها ، وأنهم وقفوا على ذلك أوقافاً كما في فتوى الإمام ابن رشد المالكي وكلام السيوطي الشافعي المنقول عن ابن عبد الواحد المقدسي الحنبلي وعن غيره ، وكلام ابن قدامة في مغنيه ، وابن القيم في كتابه الرواح ، بل صرح ابن قدامة وابن عبد الواحد المقدسي فيما نقله عن السيوطي بإجماع المسلمين فيها ، وخصها الثاني منهما بتأليف ، كما ألف فيها السروجي وسعد الدين الديري الحنفيان وغيرهما ،وقال ابن القيم : وهذا عمل الناس حتى المنكرين في سائر الأعصار والأمصار من غير نكير من العلماء ، ونسب وصولها لجمهور السلف والإمام أحمد ، وعدمه إلى أهل البدع من أهل الكلام ، وكذلك قال السيوطي وجمهور السلفوالأئمة الثلاثة على الوصول والعلامة المرغيناني الحنفي قال : للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صوماً أو صدقة أو غيرها عند أهل السنة والجماعة ، وكذلك قال البدر العيني الحنفي : يصل إلى الميت جميع أنواع البر من صلاة أو صوم أو حج أو صدقة أو قراءة قرآن أو ذكر إلى غير ذلك ، والآثار الدالة على جواز انتفاع الشخص بعمل الغير كثيرة ، قال العلامة المحقق الكمال بن الهمام : يبلغ القدر المشترك بين الكل – وهو أن من جعل شيئاً من الصالحات لغيره نفعه الله - تعالى به – مبلغ التواتر .
وقال الحافظ السيوطي : واستدلوا ( أي الجمهور ) على الوصول بالقياس على الدعاء
والصدقة والصوم والحج والعتق ، وبالأحاديث الآتي ذكرها ( وذكرها في شرح الصدور عن الخلال وغيره ) قال : وهي وإن كانت ضعيفة فمجموعها يدل على أن لذلك أصلاً ، وبأن المسلمين ما زالوا في كل عصر يجتمعون ويقرءون لموتاهم من غير نكير فكان ذلك إجماعاً اهـ .
وأما قوله تعالى : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) فلا حجة فيها للمانع لأنها مخصصة بأدلة الكتاب والسنة الكثيرة الدالة على انتفاع الشخص بعمل غيره أو محمولة على ما لا يهبه العامل له ، وقد سئل عنها وعن قوله تعالى : ( والله يضاعف لمن يشاء ) الإمام الحسين بن الفضل رحمه الله فقال : ليس له بالعدل إلا ما سعى ، وله بالفضل ما شاء الله تعالى .
تحقيق الشيخ ابن تيمية في الموضوع
قال الشيخ تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية : من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع وذلك باطل من وجوه كثيرة :
( أحدهما ) أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير .
( ثانيها ) أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها ثم لأهل الكبائر في الخروج من النار وهذا انتفاع بعمل الغير .
( ثالثها ) أن كل نبي وصالح له شفاعة وذلك انتفاع بعمل الغير .
(رابعها ) أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض وذلك انتفاع بعمل الغير .
( خامسها ) أن الله تعالى يخرج من النار من لم يفعل خيراً قط بمحض رحمته وهذا انتفاع بغير عملهم .
( سادسها ) أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم وذلك انتفاع بمحض عمل الغير .
(سابعها ) قال الله تعالى في قصة الغلامين اليتيمين ( وكان أبوهما صالحاً ) فانتفعا بصلاح أبيهما وليس هو من سعيهما .
( ثامنها ) أن الميت ينتفع بالصدقة عنه وبالعتق بنص السنة والإجماع وهو من عمل الغير .
( تاسعها ) أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه بنص السنة وهو انتفاع بعمل الغير .
( عاشرها ) أن الحج المنذور أو الصوم المنذور
يسقط عن الميت بعمل غيره بنص السنة وهو انتفاع بعمل الغير .
( حادي عشرها ) أن المدين الذي امتنع - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – من الصلاة حتى قضي دينه أبو قتادة وقضى دين الآخر علي بن طالب انتفع بصلاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وبردت جلدته بقضاء دينه وهو من عمل الغير .
( ثاني عشرها ) أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لمن صلى وحده : ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه فقد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير .
( ثالث عشرها ) أن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها قاض عنه وذلك انتفاع بعمل الغير .
( رابع عشرها ) أن من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه وهذا انتفاع بعمل الغير .
( خامس عشرها ) أن الجار الصالح ، به ينتفع في المحيا والممات كما جاء في الأثر وهذا انتفاع بعمل الغير .
( سادس عشرها ) أن جليس أهل الذكر يرحم بهم وهو لم يكن منهم ولم يجلس لذلك بل لحاجة عرضت له والأعمال بالنيات فقد انتفع بعمل غيره .
( ثامن عشرها ) أن الجمعة تحصل باجتماع العدد وكذلك الجماعة بكثرة العدد وهو انتفاع للبعض بالبعض .
( تاسع عشرها ) أن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) ، وقال الله تعالى : ( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات ) وقال تعالى ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ) فقد دفع الله تعالى العذاب عن بعض الناس بسبب بعض وذلك انتفاع بعمل الخير .
( عشرونها ) أن صدقة الفطر تجب عن الصغير وغيره ممن يمونه الرجل فينتفع بذلك من يخرج عنه ولا سعى له .
( حادي عشرينها ) أن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون ويثاب على ذلك ولا سعى له ، ومن تأمل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى ، فكيف يجوز أن تؤول الآية
علا خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة ، والمراد بالإنسان العموم .
القراءة عند القبر ليست بدعة
من المسائل يكثر فيها الجدال والخلاف والنقاش حتى يصل إلى الخصام والمقاطعة مسألة قراءة شيء من القرآن عند القبر فمنهم من يقول بدعة ومنهم من يقول حرام والمسألة لا تقتضي كل هذا الهجوم الفظيع والإنكار الشنيع ولنرجع فيها إلى أقوال أئمة السلف وعلى رأسهم إمام السلفية في عصره الشيخ ابن القيم قال :
ذكر جماعة من السلف أنهم أوصوا أن يقرأ عند قبورهم وقت الدفن ، قال عبد الحق الإشبيلي : يروي أن عبد الله بن عمر أمر أن يقرأ عند قبره سورة البقرة ، وكان الإمام أحمد ينكر ذلك أولاً حيث لم يبلغه فيه أثر ثم رجع عن ذلك .
قال الحافظ جلال الدين السيوطي : روى البيهقي في الشعب والطبراني عن ابن عمر عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قال : ( إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبر وليقرأ عند رأسه فاتحة الكتاب ) ولفظ البيهقي : فاتحة البقرة وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة في قبره . اهـ .
قلت : وقد استعمل الصحابة هذا الحديث وعملوا به فقد روى الخلال في الجامع ، ( كتاب القراءة عند القبور ) أخبرنا العباس بن محمد الدوري ، حدثنا يحيى بن معين ، حدثنا مبشر الحلبي ، حدثني عبد الرحمن بن العلاء بن اللجاج ، عن أبيه قال : قال أبي : إذا أن مت فضعني في اللحد وقل بسم الله وعلى سنة رسول الله وشن علي التراب شناً واقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة فإني سمعت عبد الله بن عمر يقول ذلك ، قال العباس الدوري سألت أحمد بن حنبل ، قلت : تحفظ في القراءة شيئاً ؟ قال لا وسألت يحيى بن معين فحدثني هذا الحديث . قال الخلال : وأخبرني الحسن بن أحمد الوراق ، حدثنا علي بن موسى الحداد وكان صدوقاً وقال : كنت مع احمد بن حنبل ومحمد بن قدامة الجوهري في جنازة فلما دفن الميت جلس رجل ضرير يقرأ عند القبر فقال له أحمد : يا هذا إن القراءة عند القبر بدعة فلما خرجنا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل يا أبا عبد الله ما تقول في مبشر الحلبي ؟
فقال ثقة ، قال كتبت عنه شيئاً ؟ قال نعم ، قأخبرني مبشر عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجاج عن أبيه أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها وقال سمعت بن عمر يوصي بذلك فقال له أحمد فارجع وقل للرجل يقرأ .
وقال الحسن بن الصباح الزعفراني : سألت الشافعي عن القراءة عند القبر فقال لا بأس بها .
وذكر الخلال عن الشعبي قال : كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرأون عنده القرآن قال : وأخبرني أبو يحيى الناقد قال سمعت الحسن بن الجروي يقول : مررت على قبر أخت لي فقرأت عندها تبارك لما يذكر لها فجاءني رجل فقال إني رأيت أختك في المنام تقول جزى الله أبا على خيراً فقد انتفعت بما قرأ ، أخبرني الحسن بن الهيثم قال سمعت أبا بكر بن الأطروش بن بنت أمي نصر بن التمار يقول : كان رجل يجيء إلى قبر أمه يوم الجمعة فيقرأ سورة ( يس ) فجاء في بعض أيامه فقرأ سورة ( يس ) ثم قال : اللهم إن كنت قسمت لهذه السورة ثواباً فاجعله في أهل هذا المقابر فلما كان يوم الجمعة التي تليها جاءت إمرأة فقالت أنت فلان بن فلانة ؟ قال نعم قالت عن بنتاً لي ماتت فرأيتها في النوم جالسة على شفير قبرها فقلت لها ما أجلسك هاهنا ؟ فقالت إن فلان بن فلانة جاء إلى المقابر فأصابنا من روح ذلك أو غفر لنا ، نحوه ذلك .
وفي النسائي وغيره من حديث معقل بن يسار المزني عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أنه قال : ( اقرءوا يس عند موتاكم )
وهذا يحتمل أن يراد به قرائتها على المحتضر عن موته مثل قوله : ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله )
ويحتمل أن يراد به القراءة عند القبر والأول أظهر لوجوه :
الأول : أنه نظير قوله : لقنوا موتاكم لا إله إلا الله .
الثاني : انتفاع المحتضر بهذه السورة لما فيها من التوحيد والمعاد والبشرى بالجنة لأهل التوحيد وغبطة من مات عليه بقوله : ( ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ) فتستبشر الروج بذلك فتحب لقاء الله فيحب الله لقاءها فإن هذه السورة قلب القرآن ولها خاصية عجيبة في قراءتها عند المحتضر .
وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي قال كنا عند شيخنا أبي الوقت عبد اللأول وفي السياق : وكان آخر عهدنا به أنه نظر إلى السماء وضحك وقال : ( .. ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ) وقضى .
الثالث : أن هذا عمل الناس وعاداتهم قديماً وحديثاُ يقرءون ( يس) عند المحتضر .
الرابع : أن الصحابة لو فهموا من قوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: ( اقرءوا يس عند موتاكم ) قراءتها عند القبر لما أخلوا به وكان ذلك أمراً معتاداً مشهوراً بينهم .
الخامس : أن انتفاعه باستماعها وحضور قلبه وذهنه عند قراءتها في آخر عهده بالدنيا هو المقصور وأما قراءتها عند قبره فإنه لا يثاب على ذلك لأن الثواب إما بالقراءة أو بالإستماع وهو عمل وقد انقطع من الميت . اهـ من كلام ابن القيم .
وقد ترجم الحافظ أبو محمد عبد الحق الإشبيلي على هذا فقال : ذكر ما جاء أن الموتى يسألون عن الأحياء ويعرفون أقوالهم وأعمالهم ثم قال : ذكر أبو عمر ابن عبد البر من حديث بن عباس عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : ( ما من رجل يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فيسلم عليه إلاعرفه ورد عليه السلام ) .
ويروى هذا من حديث أبي هريرة مرفوعاً قال : ( فإن لم يعرفه وسلم عليه رد عليه السلام ) قال ويروى من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : ( ما من رجل يزور قبر أخيه فيجلس عنده إلا استأنس به حتى يقوم ) ، واحتج الحافظ أبو محمد في هذا الباب بما رواه أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : ( ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام) .
قال : وقال سليمان بن نعيم : رأيت النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – في النوم فقلت يا رسول الله هؤلاء الذين يأتونك ويسلمون عليك أتفقه منهم ؟ قال نعم وأرد عليهم ، قال وكان - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – يعلمهم أن يقولوا إذا دخلوا المقابر : السلام عليكم أهل الديار ..... الحديث ، قال وهذا يدل على أن الميت يعرف سلام من يسلم عليه ودعاء من يدعو له .
قال أبو محمد : ويذكر عن الفضل بن الموفق قال : كنت آتي قبر أبي المرة بعد المرة فأكثر من ذلك فشهدت يوماً جنازة في المقبرة التي دفن فيها فتعجلت لحاجتي ولم آته فلما كان من الليل رأيته في المنام فقال لي يا بني لم لا تأتيني ؟ فقلت يا أبتي وأنك لتعلم بي إذا أتيتك ؟ فقال : إي والله يا بني لا أزل أطلع عليك حين تطلع من القنطرة ، حتى تصل إلي وتتقعد عندي ثم تقوم فلا أزال أنظر إليك حتى تجوز القنطرة ، قال ابن أبي الدنيا : حدثني إبراهيم بن بشار الكوفي ، قال : حدثني الفضل بن الموفق فذكر القصة .
وصح عن عمرو بن دينار أنه قال : ما من ميت يموت إلا وهو يعلم ما يكون في أهله بعده وإنهم ليغسلونه ويكفنونه وإنه لينظر إليهم ، وصح عن مجاهد أنه قال : إن الرجل ليبشر في قبره بصلاح ولده من بعده .
وقال النووي رحمه الله في شرح المهذب : يستحب لزائر القبور أن يقرأ ما تيسر من القرآن ويدعو لهم عقبها ، نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب ، وزاد في موضع آخر وإن ختموا القرآن على قبره كان أفضل اهـ .
وقال ابن مفلح في الفروع لا تكره القراءة على القبر وفي المقبرة نص عليه واختار أبو بكر والقاضي وجماعة وهو المذهب ... إلى أن قال وفي شرح مسلم :
أن العلماء استحبوا القراءة عند القبر لخبر الجريدة لأنه إذا رجا التخفيف لتسبيحها فالقراءة أولى .
وقال الشيخ الإمام أبو محمد ابن قدامة المقدسي في آخر كتاب الجنائز من مغنيه ما نصه : (فصل) ولا بأس بالقراءة عند القبر ، وقد روى عن أحمد أنه قال : ( إذا دخلتم المقابر فاقرءوا آية الكرسي وثلاث مرات قل هو الله أحد ثم قل : اللهم إن فضله لأهل المقابر ) .
وهذا الخبر عزاه السيوطي رحمه الله إلى المحب الطبري وذكره في الإحياء وفي العاقبة لعبد الحق عن أحمد بن حنبل بلفظ : إذا دخلتم المقابر فاقرءوا بفاتحة الكتاب والمعوذتين وقل هو الله أحد واجعلوا ذلك لأهل المقابر فإنه يصل إليهم .
قال الحافظ السيوطي في نفس المصدر : وفي فوائد الزنجاني عن أبي هريرة مرفوعاً : ( من دخل مقابر ثم قرأ فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد وألهاكم التكاثر ، ثم قال : اللهم إني قد جعلت ... الحديث ) .
وفي نفس المصدر في فضل قل هو الله أحد للسمرقندي عن علي مرفوعاً بلفظ : ( وقرأ قل هو الله أحد إحدى عشر مرة ...... الحديث ) وفي الإتحاف للزبيدي بعد كلام أحمد بن حنبل قال : كذا أورده عبد الحق في كتاب العاقبة عن أبي بكر أحمد بن محمد المروزي وعزاه أيضاً إلى النسائي والرافعي في تاريخه والسمرقندي وذكر الحديث مرفوعاً عن علي .
وقال الخلال : حدثني أبو علي الحسن بن الهيثم البزار شيخنا الثقة المأمون قال : رأيت أحمد بن حنبل يصلي خلف ضرير يقرأ على القبور .
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أنه قال : ( من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف عنهم يومئذ وكان له بعدد ما فيها حسنات ) .
روي عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أنه قال : ( من زار قبر والديه أو أحدهما فقرأ عنده أو عندهما يس غفر له ) ثم قال : وأي قربة
فعلها وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك إن شاء الله .
أما الدعاء والاستغفار والصدقة وأداءالواجبات فلا أعلم فيه خلافاً إذا كانت الواجبات مما تدخلها النيابة ، وقد قال الله تعالى: ( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ) .
وقال تعالى : ( واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) . اهـ
قال العلامة الشهاب القرافي في الفرق الثاني والسبعين والمائة ما ملخصه : مذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل أن القراءة يحصل ثوابها للميت وإذا قرأ عند القبر حصل للميت أجر المستمع والذي يتجه أن يقال مالا يقع فيه خلاف أنه يحصل لهم بركة القرآن لا ثوابه كما يحصل لهم بركة الرجل الصالح يدفن عندهم أو يدفنون عنده ، والذي ينبغي للإنسان أن لا يهمل هذه المسألة فلعل الحق هو الوصول إلى الموتى ، فإن هذه أمور مغيبة عنا وليس فيها اختلاف في حكم شرعي ، وإنما هو في أمر واقع ، هل هو كذلك أم لا ، وكذلك التهليل الذي جرت عادة الناس بعمله اليوم ينبغي أن يعمل ويعتمد في ذلك على فضل الله ، ويلتمس فضل الله بكل سبب ممكن ، ومن الله الجود والإحسان هذا هو اللائق بالعبد . اهـ .
نصوص فقهية في المسألة
قال الإمام شمس الدين محمد بن مفلح المقدسي في كتابه ( الفروع ) : لا تكره القراءة على القبر وفي المقبرة ، نص عليه واختاره أبو بكر والقاضي وجماعة ، وهو المذهب .
ثم قال : وصح عن ابن عمر أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها . فلهذا رجع أحمد عن الكراهة ، وقال الخلال وصاحبه : المذهب رواية واحدة لا يكره .
وقال الإمام برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح في كتابه المبدع : ولا تكره القراءة على القبر وفي المقبرة في أصح الروايتين هذا المذهب ، وروى أنس مرفوعاً قال :
( من دخل المقابر فقرأ فيها يس ، خفف عنهم يومئذ وكان له بقدرهم حسنات ) .
وصح عن ابن عمر أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها ، ولهذا رجع احمد عن الكراهة قال أبو بكر ، وأصلها أنه مر على ضرير يقرأ عند قبره ، فنهاه عنها ، فقال له محمد بن قدامة الجوهري : يا أبا عبد الله ما تقول في مبشر الحلبي ؟ قال : ثقة ، فقال : أخبرني مبشر عن أبيه أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها ، وقال سمعت ابن عمر أوصى بذلك . فقال احمد عند ذلك : ارجع ، فقل للرجل : يقرأ ، فلهذا قال الخلال وصاحبه : المذهب رواية واحدة أنه لا يكره لكن قال السامري : يستحب أن يقرأ عند رأس القبر بفاتحة البقرة وعند رجله بخاتمتها ، وقال الإمام أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي في كتابه الإنصاف : قوله ( ولا تكره القراءة على القبر في أصح الروايتين ) وهذا المذهب . قاله في الفروع وغيره ونص عليه ، قال الشارح : هذا المشهور عن أحمد . وقال الخلال وصاحب المذهب : رواية واحدة لا تكره وعليه أكثر الأصحاب منهم القاضي ، وجزم به في الوجيز وغيره . وقدمه في الفروع والمغني والشرح وابن تميم والفائق وغيرهم .
والرواية الثانية : تكره ، اختارها عبد الوهاب الوراق ، والشيخ تقي الدين .
قال الشيخ تقي الدين : نقلها جماعة وهي قول جمهور السلف . وعليها قدماء أصحابه . وسمي المروزي . انتهى .
قلت : قال كثير من الأصحاب : رجع الإمام أحمد عن هذه الرواية : فقد روى جماعة عن الإمام أحمد : أنه مر بضرير يقرأ عند قبره فنهاه . وقال : القراءة عند القبر بدعة فقال محمد بن قدامة الجوهري : يا أبا عبد الله ، ما تقول في مبشر الحلبي ؟ فقال : ثقة ، فقال : حدثني مبشر عن أبيه أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها ، وقال سمعت ابن عمر أوصى بذلك . فقال احمد عند ذلك : ارجع ، فقل للرجل : يقرأ فهذا يدل على رجوعه .
وعنه لا يكره وقت دفنه دون غيره . قال في الفائق : وعنه يسن وقت الدفن اختارها عبد الوهاب الوراق وشيخنا وعنه القراءة على القبر بدعة ، لأنها ليست من فعله عليه أفضل الصلاة والسلام ولا أصحابه .
فعلى القول بأنه لا يكره : فيستحب على الصحيح .
قال في الفائق : يستحب القراءة على القبر . نص عليه أخيراً .
قال ابن تميم : لا تكره القراءة على القبر ، بل تستحب نص عليه . وقيل : تباح . قال في الرعاية الكبرى : وتباح القراءة على القبر نص عليه وقدمه في الرعاية الصغرى والحاويين ، قال في المغني ، والشرح ، وشرح ابن رزين : لا بأس بالقراءة عند القبر . وأطلقها في الفروع .
قال العلامة الشيخ منصور البهوتي : ولا تكره القراءة على القبر ولا في المقبرة بل تستحب .
التلقين
والتلقين للميت هو أيضاً من المسائل التي يكثر فيها الجدال والأخذ والرد والذي يصل إلى الخصام والمقاطعة ، والأصل في هذا الباب هو حديث أبي أمامة المرفوع الذي رواه الطبراني وعبد العزيز الحنبلي في الشافي بسندها إلى أبي أمامة قال : ( إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن نصنع بموتانا ، أمرنا رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال : إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره ، ثم ليقل : يا فلان ابن فلانة ، فإنه يسمعه ولا يجيب ، ثم يقول : يا فلان ابن فلانة فإنه يستوي قاعداً ، ثم يقول : يا فلان ابن فلانة فإنه يقول : أرشدنا يرحمك الله ، ولكن لا تشعرون ، فليقل : اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، وأنك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً ، وبمحمدٍ نبياً ، وبالقرآن إماماً ، فإنه منكراً ونكيراً يأخذ كل واحد بيد صاحبه ويقول : انطلق بنا ما يقعدنا عند من لقن حجته ، فقال رجل : يا رسول الله ، فغن لم يعرف أمه ؟ قال : ينسبه إلى أمه حواء ، يا فلان ابن حواء ) .
قال الحافظ في ( التلخيص ) وإسناده صالح ، وقد قواه الضياء في ( أحكامه ) وفي إسناده سعيد الأزدي بيض له أبو حاتم ، وقال الهيثمي بعد أن ساقه : وفي إسناده جماعة لم أعرفهم . انتهى .
وفي إسناده أيضاً عاصم بن عبد الله وهو ضعيف . قال الأثرم : قلت لأحمد : هذا الذي يصنعونه إذا دفن الميت يقف الرجل ويقول : يا فلان ابن فلانة ، قال : ما رأيت أحداً يفعله ، إلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة ، يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه ، وكان إسماعيل بن عياش يشير إلى حديث أبي أمامة ، انتهى .
وقد استشهد في التلخيص لحديث أبي أمامة بأثر رواه سعيد بن منصور بسنده عن راشد بن سعد وضمرة بن حبيب وحكيم بن عميرة قالوا : ( إذا سوي على الميت قبره وانصرف الناس عنه كانوا يستحبون أن يقال للميت عند قبره : يا فلان قل : لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ثلاث مرات ، يا فلان قل : ربي الله ، وديني الإسلام ، ونبي محمد – صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم ينصرف ) رواه سعيد في سننه ، وبما جاء عن عثمان قال : ( كان النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال : استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل )
وراه أبو داود وأخرجه ايضاً الحاكم وصححه البزار وقال : لا يروى عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا من هذا الوجه .
قال الشوكاني عن أثر راشد وضمرة وحكيم ذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه .
( قلت ) : وقد تكلم الشيخ ظفر العثماني في كتابه القواعد عما سكت عنه الحافظ ابن حجر في كتابه الفتح من الأحاديث الزائدة بأنه صرح في المقدمة ( هدى الساري ) بأنه صحيح أو حسن عنده ، ثم قال : وكذا سكوت الحافظ عن حديث في التلخيص الحبير دليل على صحته أو حسنه ، فإن الشوكاني رحمه الله ربما يحتج بسكوته في التلخيص أيضاً كما احتج بسكوته في الفتح يظهر ذلك بمراجعة نيل الأوطار .
رأي الشيخ ابن تيمية
جاء في الفتاوي الكبرى للشيخ ابن تيمية :
وسئل : مفتي الأنام . بقية السلف الكرام . تقي الدين . بقية المجتهدين . أثابه الله ، وأحسن إليه . عن تلقين الميت في قبره بعد الفراغ من دفنه . هل صح فيه حديث عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو عن صحابته ؟ وهل إذا لم يكن فيه شيء يجوز فعله أم لا ؟
فأجاب : وهذا التلقين المذكور قد نقل عن طائفة من الصحابة : أنهم أمروا به . كأبي أمامة الباهلي ، وغيره . وروى فيه حديث عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكنه مما لا يحكم بصحته ولم يكن كثير من الصحابة يفعل ذلك ، فلهذا قال الإمام أحمد وغيره من العلماء : إن هذا التلقين لا بأس به . فرخصوا فيه . ولم يأمروا به . واستحبه طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وكرهه طائفة من العلماء من أصحاب مالك وغيرهم .
والذي في السنن عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان يقوم على قبر الرجل من أصحابه إذا دفن ويقول : ( سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل ) وقد ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ( لقنوا أمواتكم لا إله إلا الله ) فتلقين المحتضر سنة مأمور بها .
وقد ثبت أن المقبور يسأل ويمتحن وأنه يؤمر بالدعاء له فلهذا قيل إن التلقين ينفعه فإن الميت يسمع النداء كما ثبت في الصحيح عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال : ( إنه ليسمع قرع نعالهم ) وأنه قال : ( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ) وأنه أمرنا بالسلام على الموتى فقال : ( ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله روحه حتى يرد عليه السلام ) والله أعلم .
12-22-2010, 09:08 PM رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
أبو المؤيد التونسي
إدارة وتسيير
إحصائية العضو
كاتب الموضوع : أبو المؤيد التونسي المنتدى : قسم الثقافة الإسلامية
وسئل رحمه الله : هل يجب تلقين الميت بعد دفنه أم لا ؟ وهل القراءة تصل إلى الميت ؟ فأجاب : تلقينه بعد موته ليس واجباً بالإجماع ولا كان من عمل المسلمين المشهور بينهم على عهد النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم وخلفائه بل ذلك مأثور عن طائفة من الصحابة كأبي أمامة وواثلة بن الأسقع .
فمن الأئمة من رخص فيه كالإمام أحمد وقد استحبه طائفة من أصحابه وأصحاب الشافعي ، ومن العلماء من يكرهه لاعتقاده أنه بدعة فالأقوال فيه ثلاثة : الاستحباب والكراهة والإباحة وهذا أعدل الأقوال .
فأما المستحب الذي أمر به وحض عليه النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو الدعاء للميت إلى أن قال : فالقراءة عند الدفن مأثور في الجملة وأما بعد ذلك فلم ينقل فيه أثر والله أعلم اهـ ..
كلام ابن القيم
قال الشيخ ابن القيم :
ويدل هذا أيضاً ما جرى عليه عمل الناس قديماً وإلى الآن من تلقين الميت في قبره ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة وكان عبثاً وقد سئل عنه الإمام أحمد رحمه الله تعالى فاستحبه واحتج عليه بالعمل .
ويروى فيه حديث ضعيف ذكره الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم : إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس قبره ثم يقول يا فلان ابن فلانة فإنه يسمع ولا يجيب ثم ليقل يا فلان ابن فلانة الثانية فإنه يستوي قاعداً ثم ليقل يا فلان ابن فلانة فيقول : أرشدنا رحمك الله ولكنكم لا تسمعون فيقول : اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأنك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وبالقرآن إماماً فإن منكراً ونكيراً يتأخر كل واحد منهما ويقول انطلق بنا ما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته ويكون حجيجه الله دونهما فقال رجل : يا رسول الله فإن لم يعرف أمه ؟ قال ينسبه إلى أمه حواء .
فهذا الحديث إن لم يثبت فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار كاف في العمل به ما أجرى الله سبحانه العادة قط أن أمة طبقت مشارق الأرض ومغاربها وهي أكمل الأمم عقولاً وأوفرها معارف تطبق على مخاطبة من لا يسمع ولا يعقل وتستحسن ذلك لا ينكره منكر منها بل سنه الأول للآخر ويقتدى فيه الآخر بالأول فلولا أن المخاطب يسمع لكان ذلك بمنزلة الخطاب للتراب والخشب والحجر والمعدوم وهذا وإن استحسنه واحد فالعلماء قاطبة على استقباحه واستهجانه .
وقد روى أبو داود في سننه بإسناد لا بأس به أن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم حضر جنازة رجل فلما دفن قال : ( سلوا لأخيكم التثبيت فإنه الآن يسأل ) فأخبر أنه يسأل حينئذ وإذا كان يسأل فإنه يسمع التلقين .
وقد صح عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا ولوا منصرفين ) . اهـ .
الاجتماع للتعزية في بيت الميت
من أهل المسائل التي يقع بسببها الخلاف والخصام الذي يصل إلى المقاطعة والحكم على الناس بالبدعة والضلال هو جلوس أهل الميت واجتماعهم في مجلس يجمعهم لاستقبال المعزين في وفاة فقيدهم ، وقد جرت العادة أن يقف أهل الميت في صف واحد فيما يسمى ( بصف العزاء ) تسهيلاً لمهمة العزاء بدلاً من ان يدور المعزي من مكان إلى مكان بحاثاُ عن أهل الميت ليعزيهم وخصوصاً إذا فاته حضور تشييع الجنازة ، وهذا يوفر على الناس وقتاً كبيراً ولولا ذلك لاضطر المعزون إلى المشي لكل واحد من أهل الميت ومؤانسته لهم في وحشتهم وحزنهم أول مصيبتهم ، وهي مسألة فرعية لا تستوجب ذلك الإنكار والهجوم الشديد ولا تقتضي ما يقع بسببه الخصام والمقاطعة .
والأصل في جوازها أو مشروعيتها ما رواه الإمام البخاري في الجنازة . ( باب من جلس عند المصيبة ) .
وأبو داود في الجنائز من سننه في ( باب الجلوس عند المصيبة ) . وفي نسخة ( باب من جلس في المسجد وقت التعزية ) من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : لما قتل زيد بن حارثة وجعفر وعبد الله بن رواحة جلس رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المسجد يعرف في الحزن .
فانت ترى الإمامين البخاري وأبا داود جعلا عنوان الباب بلفظ صريح في الجلوس وقت التعزية ولذا قال الحافظ ابن حجر في الفتح : وفي هذا الحديث من الفوائد أيضاً جواز الجلوس للعزاء بسكينة ووقار . اهـ .
ثم إن تعزية أهل الميت مقصد شرعي واجتماعهم في بيت واحد وسيلة يتحقق بها هذا المقصد ، والقاعدة عند الفقهاء أن الوسائل تتبع المقاصد في أحكامها فوسيلة المحرم محرمة . ووسيلة الواجب واجبة . وكذلك بقية الأحكام الشرعية .
أما القول بأن الجلوس بدعة فلا أعلم أحداً نص عليه من أهل العلم وكيف يكون الجلوس بدعة وقد جلس رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؟! بل لا يصدق عليه تعريف البدعة التي هي كما قال
الإمام الشاطبي في الاعتصام : ( طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية ) .
نعم إن هذا التعريف يصدق على معنى آخر نص العلماء على أنه بدعة وهو أن يصنع أهل الميت طعاماً ويجمعون الناس عليه ، وإنما كان بدعة لأن السنة أن يصنع الناس لأهل الميت الطعام . فمن ترك هذه السنة وأحدث طريقة غيرها كان مبتدعاً فقد نص الإمام النووي رحمه الله على أنه بدعة غير مستحبة .
وقال ابن تيمية فيما نقله عنه الشيخ عبد الرحمن بن قاسم : جمع أهل المصيبة الناس على طعامهم ليقرءوا ويهدوا له ليس معروفاً عند السلف وقد كرهه طرائف من العلماء . من غير وجه اهـ .
فياليت المنكرين المعترضين على الناس في هذه المسائل يسلكون مسلك الشيخ ابن تيمية ويتأدبون بأدب أسلوبه في الانتقاد والإنكار حيث اكتفى بقوله : ( ليس معروفاً عند السلف وقد كرهه جماعة ) فما ألطف هذه الجملة وما أحسن هذا الأسلوب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأين هذا مما نسمعه من إخواننا المنكرين من الهجوم الشديد والإنكار الغليظ بالألفاظ البشعة والأساليب المنفرة والمقاطعة لأهلهم وأرحامهم وعدم مشاركتهم في مصيبتهم وأحزانهم بدعوى أن فيها مخالفة للسنة ومحاربة لله ورسوله ، وأن حضور ذلك تكثير لأهل البدع والضلالات فلا أدري من هو الذي وقع في الضلال المتفق على ضلاله ؟
ومن هو الذي فعل المنكر المتفق عليه ؟
هل الذين اجتمعوا في بيت الميت للتعزية المشروعة ؟
أم الذين قاطعوا أرحامهم وأهلهم واتهموهم في مصائبهم وفاتهم أجر عظيم بسبب ذلك ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) وعليه فمن جلس للعزاء فلا حرج عليه إن شاء الله تعالى إذا خلا ذلك عن المنهي عنه الذي يقع في بعض البلاد جهلاً أو تهاوناً ، ومن ترك الجلوس لا ينكر عليه ، لأن المسألة من مسائل الخلاف التي تتسع لها الصدور المؤمنة ولا تضيق .
ولأن الإنكار في مثل هذه المسألة ليس من عمل السلف الصالح إنما هو أمر محدث أحدثه الناس في الأزمان المتأخرة . فعلى طلبة العلم أن ينتزعوا هذا الإنكار المحدث من مجتمعاتهم ، وأن يعيدوا الناس إلى ما كان عليه السلف الصالح من عدم الإنكار في مسائل الخلاف ، والحمد لله رب العالمين .
سورة الفاتحة ويس لأموات المسلمين
جرت العادة في كثيرمن البلاد الإسلامية وفي الحرمين الشريفين خصوصاً أن يجتمعوا على قراءة القرآن وذكر الله سبحانه وتعالى في مناسبات عديدة تقرباً وتوسلاً بكتابه العظيم وذكره الكريم في قضاء الحوائج وتفريج الكروب وإصلاح القلوب وغفران الذنوب ورحمة الموتى واللطف بالأحياء وبلوغ الأماني على اختلافها . وتكثر العناية في هذا الباب بقراءة الفاتحة ويس وتبارك وبالتهليل والتكبير والتسبيح والصلاة والسلاة على الحبيب الأعظم والنبي الأكرم – صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
معنى الإختيار والتفضيل
قد يخطر ببال بعضنا ما قد فيه ، يقول مثلاً : لماذا كانت هذه السورة والآيات أفضل من غيرها ؟ وقد حرر الجواب على هذه المسألة فضيلة الإمام السيد محمد زكي إبراهيم فقال
إن القرآن كله كلام الله تعالى ، فهو من حيث المصدر والذاتية والتنزيل المناسب للأحداث ، لا تفضيل فيه لبعض الآيات والسور على بعض ، أما ما جاء على لسان رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم من بيان فضل بعضها فليس معناه أنه لا فضل لباقيها ولكن معناه أن ملابسات خاصة وقعت فجعلت النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – يصرح بما في بعض هذه السور والآيات من البركة والخير وبالتالي فإنه لم تقع الملابسات التي ربما لو وقعت لكشف لنا – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – عنا لا نعرفه من فضل بقية السور والآيات فالفضل هنا وهنا موجود ، ولكننا عرفنا هذا ولم نعرف ذاك لأن هذا الفضل سر ولا يمكن الإحاطة به إلا بوحي وبيان من الصادق المعصوم – صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وهذا وقد قال بعض العلماء : إن الأفضلية في الآيات والسور ، ليست في ذاتها ولكن في الأجر عليها والانتفاع بها في مواضعها . وقال فريق آخر ، منهم القرطبي ، وإسحاق بن راهوية وأبو بكر بن العربي ، والحليمي ، وابن القصار ، وغيرهم : إن الأفضلية طبيعة الأشياء الكونية كلها فلا عيب أبداً في أن تكون هناك آية أو سورة أفضل من غيرها لسبب أو لآخر .
قالوا فإن مدلول قوله – تعالى ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن )
ليس كمدلول قوله – تعالى ( ومن البقر اثنين ) ( ومن المعز اثنين )
إن ما في آية ( الكرسي ) من المعاني ليس في ( تبت يدا أبي لهب ) .
فالتفضيل عندهم من حيث المعاني وإن استوى الجميع من حيث المصدر والغاية .
ولا مانع أن يكون لبعض السور والآيات القرآنية مزايا خاصة لمنافع معينة أخبر بها المشره الأعظم –صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فهذه المزايا بمنافعها في مجالاتها الخاصة المعينة لا تقتضي
أفضليتها على غيرها ولهذا يقول العلماء في هذا الباب ( الالمزية لا تقتضي الأفضلية ) .
وأمثلة هذا كثيرة وكتب السنة المشرفة طافحة بها فمنها ما جاء في خصائص بعض الآيات والسور مما هو لدفع الشر ، ومنها ما هو لجلب الخير ، ومنها ما هو لقضاء الدين ، ومنها ما هو لذهاب الهم والحزن ، ومنها ما هو للشفاء من الأمراض عامة ، ومنها ما هو للشفاء من أمراض خاصة كالصرع والحمى والحسد والوسواس والشيطان ، ومنها ما جاء أنه يقرأ على الموتى وهو موضوعنا ، ومنها ما هو لدفع الفقر والفاقة . والقرآن كله كلام الله وفضله وأجره كبير والله ذو الفضل العظيم .
فضل سورة الفاتحة
عن أبي سعيد بن المعلي قال : كنت أصلي فمر بي النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فدعاني فلم أجبه حتى صليت ثم أتيته فقال : ما منعك أن تأتيني ؟ قلت يا رسول الله إني كنت أصلي ، قال : ألم يقل الله ( استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ) الآية ثم قال : ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد فاخذ بيدي فلما أردنا أن نخرج قلت : يا رسول الله إنك قلت ألا أعلمك أعظم سورة من القرآن ؟ قال : الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته .
وعن أبي سعيد الخدري قال : كنا في مسير لنا فنزلنا فجاءت جارية فقالت : إن سيد الحي سليم وإن نفرنا غيب فهل منكم راق ؟ فقام معها رجل كنا نأبنه برقية فرقاه فبرأ فأمر له بثلاثين شاة وسقانا لبناً فلما رجع قلنا له أكنت تحسن رقية أو كنت ترقي ؟ قال : ما رقيت إلا بأم الكتاب قلنا لا تحدثوا شيئاً حتى نأتي أو نسأل رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فقال وما كان يدريه أنها رقية اقسموا واضربوا لي بسهم .
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ) – ثلاثاً – أي غير تمام ، فقيل لأبي هريرة إنا نكون وراء الإمام فقال : اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول :
قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل
فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى : حمدني عبدي ،
وإذا قال : الرحمن الرحيم ، قال الله تعالى : أثنى علي عبدي ،
وإذا قال : مالك يوم الدين ، قال : مجدني عبدي ، وقال مرة : فوض إلي عبدي ،
وإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين ، قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل
فإذا قال : إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل .
قال سفيان : حدثني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب – دخلت عليه وهو مريض في بيته فسألته أنا عنه وعن ابن عباس ( ولقد آتيناك سبعاً من المثاني ) قال هي أم الكتاب وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن إبليس رن حين أنزلت فاتحة الكتاب وأنزلت بالمدينة .
وعن ابن عباس قال رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : ( من قرأ أم القرآن وقل هو الله أحد فكأنما قرأ ثلث القرآن ) .
قال رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ) .
وقال – صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها ) .
وعن عبد الملك بن عمير عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أنه قال : ( فاتحة الكتاب شفاء من كل داء ) .
وعن ابن عباس قال بينما جبريل قاعد عند النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه فقال : ( هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته ) .
فائدة
قال فقي بغية المسترشدين للإمام عبد الرحمن بن محمد المشهور رحمه الله تعالى :
رجل مر بمقبرة فقرأ الفاتحة وأهدى ثوابها لأهلها فهل يقسم أو يصل لكل منهم ثوابها كاملاً ؟
أجاب الشيخ ابن حجر بقوله : أفتى جمع بالثاني وهو اللائق بسعة رحمه الله تعالى . اهـ .
ثم قال : نقل عن فتاوي السيد العلامة عبد الله بن حسين بلفقيه : الأولى لمن يقرأ الفاتحة لشخص أن يقول : إلى روح فلان بن فلان كما عليه العمل لبقاء الأرواح وفناء الأجسام وإن كان لها بعض مشاركة في النعيم وضده في البرزخ إذ الروح الأصل ، وسر ذلك أن حقيقة المعرفة والتوحيد وسائر الطاعات الباطنة إنما نشأ عن الروح فاستحقت أكمل الثواب وأفضله اهـ ملخصاً .
فضل سورة يس
عن معقل بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال : ( البقرة سنام القرآن وذروته مع كل آية منها ثمانون ملكاً واستخرجت – الله لا إله إلا هو الحي القيوم – من تحت العرش ، فوصلت بها ، أو فوصلت بسورة البقرة ، ويس قلب القرآن لا يقرؤها رجل يريد الله تبارك وتعالى والدار الآخرة إلا غفر له ، واقرءوها على موتاكم ) .
وعنه – رضي الله تعالى عنه قال : - قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : ( اقرءوا يس على موتاكم ) .
وعنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- : ( سورة يس اقرءوها على موتاكم )
وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : ( إن لكل شيء قلب ، وقلب القرآن يس ، ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات ) .
وعن جندب رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : ( من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له ) .
ـــــــــــــــــــ
فضل سورة الملك
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ( ضرب بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فإذا فيه إنسان يقرأ سورة تبارك الذي بيده الملك حتى ختمها فأتى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فقال يا رسول الله إني ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا فيه إنسان يقرأ سورة تبارك الملك حتى ختمها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – : ( هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر ) .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : يؤتى الرجل في قبره فتؤتى رجلاه : ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقوم يقرأ بي سورة الملك ، ثم يؤتى من قبل صدره أو بطنه ، فيقول ليس لكم علي من قبلي سبيل كان يقوم يقرأ بي سورة الملك ثم يؤتى من قبل رأسه فيقول ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقرأ بي سورة الملك فهي المانعة تمنع عذاب القبر ، وهي في التوراة سورة الملك من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطنب .
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – : لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي يعني ( تبارك الذي بيده الملك ) .
فضل لا إله إلا الله
أول أبواب الفرج لا إله إلا الله ، هي كلمة التقوى كما قال عمر رضي الله عنه ، وهي كلمة الإخلاص وشهادة الحق ودعوة الحق وبراءة من الشك ونجاة هذا الأمر ولأجلها خلق الخلق ، كما قال تعال : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ولأجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب ، كما قال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) وقال تعالى : ( ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنع لا إله إلا الله أن فاتقون ) نحو هذه الآيات .
ولهذا قال ابن عيينة : (ما أنعم اللله على عبد من العباد نعمة أعظم من أن عرفهم لا إله إلا الله ) وأن لا إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا ، ولأجلها أعدت دار الثواب ودار العقاب ولأجلها أمرت الرسل بالجهاد فمن قالها عصم ماله ودمه ومن أباها فماله ودمه هدر ، وهي مفتاح الجنة ومفتاح دعوةالرسل وبها كلم الله موسى كفاحاً .
وفي مسند البزار وغيره عن عياض الأنصاري عن النبي قال : ( لا إله إلا الله كلمة حق كريمة على الله ، ولها من الله مكان وهي كلمة من قالها صادقاً أدخله بها الجنة ومن قالها كاذباً حقنت دمه وأحرزت ماله ولقى الله غداً وحاسبه وهي ثمن الجنة ) .
قال الحسن – وجاء مرفوعاً من وجوه ضعيفة :( ومن كانت آخر كلامه دخل الجنة ) .
وهي نجاة من النار وهي توجب المغفرة ، وهي أحسن الحسنات وهي تمحو الذنوب والخطايا ، وهي تجدد ما درس من الإيمان في القلب ، وهي ترجح بالسموات والأرض ، وهي تخرق الحجب وهي أفضل ما قاله النبيون ، وهي أفضل الأعمال وأكثرها تضعيفاً وتعدل عتق الرقاب وتكون حرزاً من الشيطان ، وهي أمان من وحشة القبر ، وهي شعار المؤمنين إذا قاموا من قبورهم ) .
عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله : أو صني ، قال : ( إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها ) قال : قلت يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله ؟ قال : هي أفضل الحسنات .
( مفاتيح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله ) .
وعن معقل بن يسار قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – : ( لكل شيء مفتاح ومفتاح السموات قول لا إله إلا الله ) .
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : قيل يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ قال : رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – : ( لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك ، لما رأيت من حرصك على الحديث ، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه " .
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : ( ما قال عبد لا إله إلا الله قط مخلصاً إلا فتحت له أبواب السماء حتى يفضي إلى العرش ما اجتنبت الكبائر ) .
هذه خلاصة يسيرة في ذكر فضائل بعض السور القرآنية وبركتها على الأحياء والأموات وقد سبق من التحقيق وهو الراجح عند أكثر المذاهب وعليه عمل جمهور المسلمين من السلف والخلف أن الميت ينتفع بقراءة القرآن كما ينتفع بالدعاء والاستغفار له والصدقة عليه والحج عنه وزيارة قبره ... الخ .
الخاتمة
قصر الأمل وذكر الموت
اعلم أن قصر الأمل ، والإكثار من ذكر الموت ، أمر مرغوب فيه ، مندوبإليه ، وأن طول الأمل ونسيان الموت أمرمكروه قد ورد التحدذير عنه . قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فاولئك هم الخاسرون – وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفس إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون )
وقال تعالى : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ) .
وقال تعالى : ( قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ) الآية .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – : ( أكثروا من ذكر هازم اللذات ) الحديث .
وسئل عليه الصلاة والسلام عن الأكياس من الناس من هم ؟ فقال : أكثرهم للموت ذكراً ،
وأحسنهم له استعداداً أولئك الأكياس ، ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة وقال رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) .
وقال رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : ( ما لي وللدنيا ، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها ) .
معنى تذكر الموت
وليس ذكر الموت النافع هو أن يقول الإنسان بلسانه : الموت الموت فقط ؛ فإن ذلك قليل المنفعة وإن أكثر منه ، بل لا بد مع ذلك من تفكر القلب واستحضاره عند ذكر الموت باللسان . كيف يكون حاله عند الموت وأهواله وسكراته ومعاينته أمور الآخرة . وما الذي بقى من أجله وبم يختم له ، وكيف كان حال من مضى من أقرانه وأصحابه عند الموت ، وإلى أي مصير صاروا !! وأشباه ذلك من الأفكار والأذكار النافعة للقلب والمؤثرة فيه . قال بعض السلف : انظر كل شيء تحب أن يأتيك الموت وأنت عليه فالزمه وكل شيء تكره أن يأتيك الموت وأنت عليه فاجتنبه . فتأمل رحمك الله هذه المقالة ، فإنها عظيمة النفع لمن عمل بها والله الموفق والمعين لا رب غيره .
معنى كراهية الموت
وأما كراهية الموت فأمر طبيعي لا يكاد الإنسان ينفك عنه ، وذلك لأن الموت مؤلم في نفسه ، ومفرق بين الإنسان وبين محبوباته ومألوفاته نت دنياه . ولما قال رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه . ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ) قالت له السيدة عائشة رضي الله – تعالى – عنها : يا رسول الله كلنا نكره الموت ؟! قال – صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : ( إن المؤمن إذا حضره الموت بشر برحمة الله فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه ، وإن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله فكره لقاء الله وكره الله لقاءه ) .
وفي وصف المؤمن المحبوب المذكور في قوله عليه الصلاة والسلام عن الله ( ما تقرب المتقربون ) فساق الحديث إلى أن قال تعالى ( وما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه ) فأنظر كيف وصفه بكراهية الموت مع كمال إيمانه وعلو منزلته عنده – تعالى – تعلم صحة ما ذكرناه وفي أخبار موسى عليه الصلاة والسلام أنه لطم ملك الموت حين جاءه ليقبضه فأخرج عينه .
نعم ، قد تنغمر كراهية الموت حتى لا تحس في حال قوة إشراق أنوار المعرفة واليقين ، ويكون ذلك لأهله في وقت دون وقت . وأما الأمر العام في أهل الإيمان فهو أنهم يحبون الموت لما فيه من لقاء الله ، والمصير إلى الدار الباقية ، والخروج من الدنيا محل الفتن والمحن ، ويكرهون الموت بالنفس والطبع ، لما فيه من الألم وفراق المحبوبات ، وكلما كان الإيمان أقوى كانت الكراهية أقل ومقتضى الطبع أضعف ، وبالعكس . فتفطن لذلك والله يتولى هداك .
وأما طول العمر في طاعة الله فهو محبوب ومطلوب لقوله عليه الصلاة والسلام : ( خيركم من طال عمره وحسن عمله ) وكلما كان العمر أطول في طاعة الله كانت الحسنات أكثر والدرجات أرفع . وأما طوله في غير طاعة الله فبلاء وشر : تكثر السيئات وتتضاعف الخطيئات .
ومن زعم من الناس أنه يحب طول البقاء في الدنيا ليستكثر من الأعمال الصالحة المقربة إلى الله تعالى ، فإن كان مع ذلك حريصاً عليها ومشمراً فيها ومجانباً لما يشغل عنها من أمور الدنيا فهو بالصادقين أشبه ، وإن كان متكاسلاً عنها ومسوفاً فيها – أعني الأعمال الصالحة – فهو من الكاذبين المتعللين بما لا يغني عنه ، لأن من أحب أن يبقى لأجل شيء صار في غاية الحرص على ذلك الشيء مخافة أن يفوته ويحال بينه وبينه . سيما والعمل الصالح لا يمكن إلى في الدنيا ، ولا يتصور وجوده في غيرها ألبتة ، لأن الآخرة دار جزاء وليست بدار عمل فتفكر في ذلك جداً عسى الله أن ينفعك به ، واستعن بالله واصبر ، واجتهد وشمر ، وبادر بالأعمال الصالحة من قبل أن لا تجد إليها سبيلاً ، واغتنم فسحة المهل من قبل أن يفجأك الأجل ، فإنك غرض للآفات ، وهدف منصوب لسهام المنيات ، وإنما رأس مالك الذي يمكنك أن تشتري به من الله سعادة الأبد هذا العمر . فإياك أن تنفك أوقاته وأيامه وساعاته وأنفاسه فيما لا خير فيه ولا منفعة ، فيطول تحسرك ويعظم أسفك بعد الموت إذا عرفت قدر الفائت وتحققته .
وقد ورد أنه تعرض على الإنسان في الدار الآخرة ساعات أيامه ولياليه في هيئة الخزائن كل يوم وليلة أربع وعشرون خزانة بعدد ساعاتها ، فيرى الساعة التي عمل فيها بطاعة الله خزانة مملوءة نوراً ، والتي عمل فيها بمعصية الله مملوءة ظلمة ، والتي لم يعمل فيها بطاعة ولا معصية يجدها فارغة لا شيء فيها فيعظم تحسره إذا نظر إلى الفارغة أن لا يكون عمل فيها بطاعة الله فيجدها مملوءة نوراً . وأما التي يجدها مملوءة ظلمة فلو قضى عليه أن يموت عند النظر إليها من الأسف والحسرة لمات ، غير أنه لا موت في الآخرة ، فالعامل بطاعة الله يكون فيها فرحاً مغتبطاً على الدوام ، يزيد فرحه واغتباطه على ممر الأيام .
والعامل بمعصية الله ترح مغموم ، لا يزال يزداد ترحه وغمه إلى غير نهاية فاختر لنفسك رحمك الله ما دمت في دار الاختيار ما ينفعها ويرفعها ، فإنك لو قد مت خرج الأمر عن اختيارك .
قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله في البداية : واعلم أن الموت لا يهجم في وقت مخصوص ، وحال مخصوص . وسن مخصوص ، ولا بد من هجومه ، فالاستعداد له أولى من الاستعداد للدنيا .
وقال أيضاً في موضع آخر من البداية : ولا تدع عنك التفكر في قرب الأجل وحلول الموت القاطع للأمل ، وخروج الأمر عن الاختيار ، وحصول الحسرة والندامة بطول الاغترار . انتهى .
وقدكان السلف من الصالح من لو قيل له : إنك ميت غداً ، لم يجد موضعاً للزيادة من العمل الصالح ، لما هو عليه من غاية الإقبال على الآخرة والاشتغال بالأعمال الصالحة .
وقال بعضهم لبعض من استوصاه : انظر فكل شيء تحب أن يأتيك الموت وأنت تعمله فالزمه الآن ، وكل شيء تكره أن يلقاك الموت وأنت تعمله فاتركه الآن وفي الإكثار من ذكر الموت ، واستشعار قرب نزوله ، فوائد جليلة ، ومنافع كثيرة ، منها : الزهد في الدنيا والقناعة باليسير منها ، وملازمة الأعمال الصالحة التي هي زاد الآخرة ، وماجنبة السيئات والمخالفات ، والمبادرة بالتوبة إلى الله – تعالى – ومنها ، إن كان قد فارقها .
وفي نسيان ذكر الموت ، وإطالة الأمل ، أضداد هذه الفوائد وهذه المنافع ، من شدة الرغبة في الدنيا ، وشدة الحرص على جمع حطامها ، والتمتع بشهواتها ، والاغترار بزخارفها ، وتسويف التوبة من الذنوب ، والتكاسل عن الأعمال الصالحة وقد قال السلف الصالح رحمهم الله : من طال أمله ساء عمله .
وقال علي كرم الله تعالى وجهه : أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى ، وطول الأمل ، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق ، وأما طول الأمل فينسي الآخرة ، انتهى ، وفي الحديث المرفوع ( أخوف ما أخاف على أمتي اتباع الهوى وطول الأمل ) .
ولا خير بحال فيما ينسي الآخرة من الآمال ، وهو الأمل الذي استعاذ منه عليه الصلاة والسلام ، فقال : (أعوذ بك من كل أمل يلهيني ، ومن دعائه صلوات الله عليه : وأعوذ بك من دنيا تمنع خير الآخرة ، ومن حياة تمنع خير الممات ، ومن أمل يمنع خير العمل ) .
فإذا غاب على قلب الإنسان استشعار طول البقاء في الدنيا ، غلب عليه الاهتمام لها ، والسعي لجمعها ، حتى يغفل عن الآخرة وعن التزود لمعاده فيبغته الموت وهو على ذلك ، فيلقى الله مفلساً من الأعمال الصالحة ، فيندم ويتحسر ، حيث لا ينفعه التحسر فيقول : ( يا ليتني قدمت لحياتي ) ، و ( رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت ) .
المرض نذير الموت
ثم إذا مرض الإنسان فينبغي له أن يأخذ في التوبة ، والإكثار من الاستغفار ومن الذكر لله ، والاعتذار إليه من سالف إساءاته وغفلاته ، فإنه لا يدري لعله يموت من مرضه ذلك ، ولعله قد حضره الأجل ، فيختم عمله وأيام عمره بالخيرات فإن الأعمال بخواتيمها . والأمراض مذكرات بالآخرة ، وبالرجوع إلى الله تعالى ، وليوص بما يحتاج إلى الوصية به ، مما يهمه من أمور آخرته ودنياه ، سيما من حقوق الخلق وتبعاتهم ، فإنها شديدة والخلاص منها عسير .
وليكن في مرضه على غاية ونهاية ، من حسن الظن بالله تعالى . قال عليه الصلاة والسلام : ( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى ) وليكن ذلك هو الغالب على قلبه ، والمستولي عليه فإنه تعالى يقول : ( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه حين يذكرني ) .
ودخل صلوات الله وسلامه عليه على مريض شاب يعوده فقال : ( كيف تجدك ؟ فقال : أرجو ربي وأخاف ذنوبي فقال عليه الصلاة والسلام : ما اجتمعا في قلب مسلم مثل هذا الموطن إلاأعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف ) .
ومع ذلك ينبغي أن يكون حال الرجاء هو الغالب على المريض ، سيما إذا ظهرت عليه علامات الموت ، وقرب حضور الأجل ، ليموت على حسن الظن بالله ، وقوة الرجاء في كرمه وسعة رحمته وحب لقاءه ، (ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ) .
وقد جاء في معناه : أن العبد المسلم إذا حضره الموت ، بشر برحمة الله وفضله فأحب لقاء الله ، وأحب الله لقاءه ، وأن المنافق إذا حضره الموت ، بشر بعذاب الله ، فكره لقاء الله ، وكره الله لقاءه . فالمؤمنون المتقون يبشرون برحمة الله ، عند خروجهم من الدنيا ، فتكاد أرواحهم أن تطير من أجسادهم شوقاً إلى ربهم وحب لقائه ، حين تسلم عليهم الملائكة ، وتبشرهم بدخول الجنة ، وأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون قال الله تعالى : ( الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ) .
وقال تعالى : ( إن الذي قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنت توعدون ) . إلى قوله تعالى : ( نزلاً من غفور رحيم ) .
وينبغي للمريض أن يحترز من النجاسات أن تصيبه في بدنه وفي ثيابه فتمنعه من الصلاة ، وليحذر كل الحذر من ترك الصلاة ، وليصل على حسب حاله قاعداً أو مضطجعاً ، أو كيف أمكنه ، ولا يختم عمله بالإضاعة لعماد الدين الذي هو الصلاة .
وينبغي لمن حضره من أهله وأصحابه أن يحثوه على ذلك ، ويعاونوه ويذكروه به .
وليعلم أن فرض الصلاة لا يسقط عنه ما دام عقله معه وليكثر من قول : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، وليكثر من قراءة سورة الإخلاص .
ثم إن المريض إذا غلب عليه المرض ، وظهرت عليه أمارات قرب الموت كان الذي ينبغي لحاضريه من أهله وأقاربه : أن ينظروا فإن رأوا عليه شيئاً من مخايل الجزع وشدة الخوف ، فليذكروا له محاسن عمله ، وسعة رحمة ربه ، وعظيم عفوه عن المذنبين ، وتجاوزه عن المقصرين ، فقد كان السلف يستحسنون مثل ذلك مع المحتضرين من حاضريهم وربما التمس المحتضر منهم مثل ذلك من حاضريه .
ومن المتأكد المأمور به ، أن يلقنوه لا إله إلا الله ، فإذا قالها فلا ينبغي أن يعاد عليه ، إلا إن تكلم بكلام آخر . وينبغي أن يقرأ عليه سورة يس المباركة ، يقال : إن ذلك يسهل خروج الروح وللموت كرب وسكرات . وقد تسهل وتهون على بعض المؤمنين .
وفيما يروى عن ملك الموت عليه السلام أنه قال : إني بكل مؤمن شفيق رفيق . وقد يحضر الموتى في حال قبضهم أنواع من الفتن والعياذ بالله . فلذلك ينبغي الإكثار لمن يحضرهم ، من قراءة القرآن وأحاديث الرجاء وذكر أحوال الصالحين عند خروجهم من الدنيا .
وفي بعض الآثار ، أن الشيطان لعنه الله ، أقرب ما يكون من العبد عند وفاته حرصاً منه على أن يفتنه ، ولكن ( إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ) و ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ) .
وقد اشتد خوف السلف الصالح ، رحمهم الله تعالى ، من سوء الخاتمة ، ولهم في ذلك أخبار وحكايات ، يطول ذكرها ، وقد ورد في ذلك ما يقتضي الخوف البالغ ، مثل قوله عليه الصلاة والسلام : ( فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ) الحديث .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ، وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار ، فيما يبدو للناس ، وهو من أهل الجنة ) ومثل ذلك كثير .
قالوا : وأكثر من يخشى عليه سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى المتهاون بالصلاة والمدمن لشرب الخمر والعاق لوالديه والذي يؤذي المسلمين وكذلك المصرون على الكبائر والموبقات الذي لم يتوبوا إلى الله منها ويكاد يدل لذلك قوله تعالى : ( ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوآى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون ) .
فينبغي للمسلم : أن يرجو من فضل الله ، أن لا يسلبه نعمة الإسلام ، من بعد أن أنعم عليه بها ابتداء من غير وسيلة منه ، ويخاف مع ذلك من التغير ، لتقصيره في الشكر على هذه النعمة التي هي أعظم النعم ، وقد كان بعض السلف ، يحلف بالله : أنه ما أمن أحد على إسلامه أنيسلب إلا سلب . وينبغي أن لا يزال سائلاً من الله تعالى ، متضرعاً إليه ، أن يرزقه حسن الخاتمة . وقد ذكر عن إبليس لعنه الله أنه قال : قصم ظهري الذي يسأل الله حسن الخاتمة ، أقول : متى يعجب هذا بعمله أخشى أنه قد فطن .
اللهم إنا نسألك بنور وجهك ، وبحقك عليك ، حسن الخاتمة عند الممات لنا ولأحبابنا وللمسلمين ، يا أرحم الراحمين . ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب . ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين .
المحتضر
ومن السنة أن يضجع المحتضر على يمينه ، مستقبل القبلة ، فإذا قضى نحبه ، فينبغي أن تغمض عيناه ، فإنه يشخص ببصره عند ذلك .
وفي الحديث : ( إن البصر يتبع الروح ) ، ويكثر عند ذلك حاضروه من الاستغفار له ، والترحم عليه والدعاء ، فإن الملائكة يؤمنون على ما يقولون ، وفي البكاء رخصة ، والصبر خير منه وأفضل .
النياحة والبكاء
وأما الياحة والندب ، وهو التعديد ، وطرح التراب على الرأس ، ولطم الخدود ، وشق الجيوب ، فجميع ذلك محرم شديد التحريم ، وقد وردت الأحاديث الصحيحة ، بالتهي عنه والوعيد عليه .
تمني الموت
ويكره تمني الموت والدعاء به ، لضر ينزل بالإنسان ، من مرض أو فقر أو نحو ذلك من شدائد الدنيا فإن خاف فتنة في دينه جاز له تمنيه ، وربما ندب ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي ، وتوفني إن كانت الوفاة خيراً لي ) وقال عليه الصلاة والسلام : ( لا يتمنين أحدكم الموت ، إما محسن فلعله يزاد وإما مسيء فلعله يستعتب ) أي يتوب ويعتذر .
ثم إن الموت أمر مكتوب على جميع الأنام ، وقضاء محتوم بين الخاص والعام ، وقد سوى الله فيه بين القوي والضعيف والوضيع والشريف ، وقهر به الجبابرة وقصر به القياصرة ، وكسر به الأكاسرة . وجعله للمؤمنين المتقين تحفة وأي تحفة ، وزلفة وأي زلفة ، وللكافرين والمنافقين حسرة وأي حسرة ، وأخذة وأي أخذة ، فسبحانه من ملك جبار منفرد قهار ، قد توحد بالدوام والبقاء ، وتنزه عن الموت والفناء ، فهو الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء .
قال عز من قائل : ( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) .
والقائل تعالى : ( كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون )
وقال تعالى : ( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) .
0 التعليقات:
إرسال تعليق