معالم نظرية التكامل المعرفي في المنهج الإسلامي
الكاتب : نصير زرواق | القسم : نقد ومراجعات
مقدمة و تمهيد : مما لا جدال فيه ، إن العقل المسلم، و لد، حين و لد حضاريا، متوازنا في أصوله، متكاملا في مقاصده، متناسقا في أجزائه، و نفى عن نفسه منذ لحظة ميلاده،ثنائية الوحي أو العقل ، أو ازدواجية العقيدة أو الفكر، أو جدلية الدين أو الدنيا، ومن ثم لم يشهد تصادما ، في تاريخه الحضاري، ذي بال بين الغيب المحجوب و الكون المشهود، و لم يقم حاجزا بين المادة و الروح، و لم يفصل بين الدين و الحياة.. بل مضى متوازنا متكافئا، موفقا بين التناقضات و الثنائيات التي تطبع الإنسان و الكون و الحياة.و قد اتسم بالشمول و الإيجابية في علاقة هذه الموجودات بعضها مع بعض: الإنسان و الكون و الحياة، على أساس التوحيد الذي أعطى ذلك التفسير الشامل و الايجابي في علاقة الموجودات بالواجد سبحانه، و بالتالي برأ الفكر الإسلامي من لوثة الازدواجية أو الثنائية التي دمغت الفكر الغربي الذي و لد من رحم الجدلية و الثنائية و الازدواجية بين الدين و الدنيا ، و بين الوحي و العقل ، وبين الغيب و الشهادة، و بين المادة و الروح،و هو ماتبناه لاحقا في منظومته الفكرية بعد الانتصار على الكنيسة المتحالفة مع الإقطاع، و هو سر ولادة المنظومة الفكرية الغربية ولادة حضارية مشوهة، تحت رايات العلم و البحث العلمي الذي لا يعترفا إلا بالتجربة أساسا و مقياسا لصدقية الأحكام أو عدم صدقتيها و التي أساسها الحس ، و التي سحبها الفكر الغربي على كافة الحقول المعرفية و الفروع العلمية ، حتى تلك التي تتعلق بدراسة النفس الإنسانية أو الدراسات الاجتماعية و لاقتصادية، وما عجز عن تفسيره علميا عن طريق مناهج البحث يفسره تفسيرا ماديا ن حتى و لو لم يكن المفسر من جنس المادة. و بما إن الأمة الإسلامية تقتات على إنتاج الحضارة الغربية المادية،و تحذو مناهجها التعليمة حذو الغربية ، و إن لم تصل إلى حد نبذ الدين جملة، فوضعت ، اقتداء بما تركه المستعمر في الغالب من تقليد و ما كونه من نخب، مناهج خاصة بالدراسات الدينية ، و أخرى خاصة بالمناهج التجريبية ،و أقامت حاجزا بين المنهجين ، و حجرت على التقليدي في فضاء التراث، غير المصفى،و فتحت الأفاق للتقدمي على أساس أنه سر النهضة و الفتح المادي. و هي نظرة لم تراعي خصوصية الإسلام و لا خصوصية المسلمين ، و هو ما ولد تنازعا غريبا في تكوين جيل لا يستطيع التوفيق بين المادة و الروح أو بين الدين و الدنيا، و التوفيق بين الوحي و العقل و بين العقيدة و الفكر، و بالتالي ضاعت تلك الرؤية الشمولية المتوازنة التي أسسها الجيل الأول و التي قامت عليها الحضارة الإسلامية في بدايات ميلادها،و قامت على هديها مناهجها التعليمية و التربوية في بغداد و دمشق و القاهرة و فاس و الأندلس و غيرها من الأمصار،و أنتجت عقليات كبيرة و نظارا كبارا لم يشعروا بالتنازع بين الدين و الدنيا و بين العقيدة و الفكر و بين الوحي و العقل.و إن وجدت مناقشات و جدل هنا و هناك، و لكنه لم يخل بأصل التوازن و التناسق و الشمول الذي بقي الخط الأكبر و التوجه العام الذي ضبط مسيرة المناهج التعليمية و التربوية ، و التي أسهمت في الإنتاج الإنساني المشترك، بل و كان أساس الحضارة الحديثة و المدنية القائمة اليوم. و عليه، سنحاول في هذه الورقة إتباع المنهج الاستقرائي والمنهج التاريخي ، في عرض نظرية التكامل المعرفي في المنهج الإسلامي و عرض نظريته التي اتسمت بالشمول و التوازن وهو ماوسم الفكر الإسلامي في قوته، وطبعه على امتداد مسيرته، قبل التوقف الحضاري ،و الاستسلام للحضارة الغربية القائمة.و هذه الورقة تلامس المحو الثني المتعلق بوصف التكامل المعرفي إطارا فلسفيا لمناهج التعليم الجامعي، وذلك بطرح أصول و أساسيات فكرة التكامل المعرفي في محاولة لعرضها بقصد تفعيلها كأصل و أساس لكل المعرف و العلوم ابتداء، مع عرض ما تتركه للاجتهاد العقلي من مساحة و فضاء فيما وراء تلك الأصول و تلك الأسس. أولا :مصادر المعرفة بين الوحي والعقلأولا: العقيدة والفكر:1- العقيدة: هناك حقيقتين أساسيتين متلازمتين للحياة البشرية، والنفس البشرية،على كل حال وفي كل زمان؛ الحقيقة الأولى: أن هذا الإنسان -بفطرته- لا يملك أن يستقر في هذا الكون ذرة تائهة مغفلة ضائعة، فلا بد له من رباط معني بهذا الكون، يضمن له الاستقرار فيه، ومعرفة مكانه في هذا الكون الذي يستقر فيه، فلا بد له إذن من عقيدة تفسر له مكانه فيما حوله، فهي ضرورة فطرية شعورية، لا علاقة لها بملابسات العصر والبيئة(1). والحقيقة الأخرى: هي أن هناك تلازما وثيقا بين طبيعة التصور الإعتقادي، وطبيعة النظام الاجتماعي، ... تلازما لا ينفصل، ولا يتعلق بملابسات العصر والبيئة، .. بل إن هناك ما هو أكثر من التلازم ... هناك الانبثاق الذاتي...فمن وظائف العقيدة البيان والتفسير، بيان منهج التعامل، وتفسير الحقائق التي يعجز العقل البشــري عــن إيجـــاد تفسير لها.في إطار الكون الذي يعيش فيه، وأهم ما تزود به العقيدة الإنسان:أ- تربية الإدراك وتقويم منهج النظر والحكم(2):- (ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا)(الإسراء 36).- (إن الظن لا يغني من الحق شيئا)(يونس 36).ب- في النظر في النفس والآفاق:- (قل انظروا ماذا في السموات والأرض)(يونس 101).- (وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون)(الذاريات 20-21).-(قل سيروا فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ، إن الله على كل شيء قدير) (العنكبوت 20).ثانيا: ثبات العقيدة وتغير الفكر:ولا تنازع بين العقيدة والتفكير، فالتصور الإسلامي يدع للعقل البشري وللعلم ميدانا واسعا كاملا، فيما وراء أصل التصور ومقوماته، ولا يقف دون العقل يصره عن البحث في الكون، بل هو يدعوه إلى هذا البحث ويدفعه إليه دفعا. ولا يقف دون العلم البشري في المجال الكوني، بل هو بكل أمر الخلافة لله، في حدود التصور الرباني، للعقل البشري وللعلم البشري.وبناء على ما تقدم هناك ثبات في مقومات هذا التصور الأساسية، وقيمه الذاتية، فهي لا تتغير ولا تتطور، حينما تتغير ظواهر الحياة الواقعية، وأشكال الأوضاع العملية، فهذا التغير في ظواهر الحياة وأشكال الأوضاع يظل مكونا بالمقومات والقيم الثابتة لهذا التصور، ولا يقتضي هذا تحميد حركة الفكر والحياة، ولكنه يقتضي السماح لها بالحركة –بل دفعها إلى الحركة- ولكل داخل هذا الإطار الثابت، وحول هذا المحور الثابت(1)،(2).على أن المنظومة الإسلامية، وهي تضع هذا النظام، في علاقة العقيدة بالفكر - وهو ما نبذه ويرفضه بل ويعاديه العقل الغربي- له جملة من الإيجابيات أهمها:أ- ضبط حركة البشرية: فلا تمضي البشرية شاردة من غير هدى، كما وقع في الحياة الأوربية عندما أفلتت من عروة العقيدة.ب- ضبط مجال تفكير العقل.جـ - التقويم: وجود مقوم للفكر الإنساني، مقوم منضبط بذاته، يمكن أن يعصم الفكر الإنساني، فلا يتأرجح مع الشهوات والمؤثرات. ثالثا: العقيدة وصيانة الطاقة الفكرية زود العقل بطاقات كبيرة هائلة، تسعفه في التكليف مع الكون واستغلاله في حدود المعقول لسد حاجاته، ولكن هذا العقل يعجز عن تفسير كثير من الحقائق، ولا يبلغ إدراك أسرار ما حوله(1). فهذه الحياة كيف انبثقت في المادة؟ وكيف بارت، وتسير سيرتها هذه العجيبة المحوطة بالآلاف من الموافقات والموازنات والتقديرات المرسومة المحسوبة بهذا الحساب الدقيق ... أي المسافة بين الوجود والعدم مسافة لا يكاد يعبرها العقل البشري، فكيف وجد هذا العالم، وكيف وجدت هذه الطبيعة... إذا كانوا يعنون بها الوجود المادي، والمسافة بين الكلية الجامدة والكلية الحية، لكن المسافة التي بين الوجود والعدم، إنها كذلك مسافة هائلة لا يعبرها العقل البشري إلا بالإحالة على تلك الإرادة المبدئية، التي تنشئ كل شيء إنشاء وتبدع إبداعا إرادة الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى(2).فالعقيدة تخاطب العقل وتحدثه عن المادة والأحياء، فتعرفهم مصدر الحياة ومصدر الأحياء:- (وخلقنا من الماء كل شيء حي)(الأنبياء 30).- (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء)(هود 6).- (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج)(الحج 5).- (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون)().كما تمرن العقيدة العقل عن الاهتمام حديثا مستفيضا، مصدره ومنشأه وطبيعته ومركزه وغاية وجوده:- (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون)(الحجر 26).- (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)(البقرة 30).- (أولم يرى الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين)(يس 77).- (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا)(الكهف 54).- (إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا)(المعارج 19-21).وتبرز الحاجة الإنسانية كلها إلى العقيدة الصحيحة عن الإنسان و الكون و الحياة و ما وراء ذلك ، من أجل تفسير ما يعجز العقل عن تفسيره(1).توازن الفكر : لا شك أن الفكر البشري يتوازن حين يجد تفسيرا لما يعجز عقله عن تفسيره ، من مجهول، و هو الجانب الذي تتلقاه الكينونة الإنسانية لتدركه و تسلم به، و ينتهي عملها عندا لتسليم .و الجانب الثاني الذي تتلقاه الكينونة الإنسانية لتدركه و تبحث حججه و براهينه ، و تحاول معرفة علله و غاياته ، و تفكر في مقتضياته العلمية و تطبيقها في الحياة الواقعية... و بذلك يقف الضمير البشري على أرض ثابتة مستقرة يتعرف إلى نواميس الكون و سنن الحياة و طاقات الأرض و ينتفع بها و بتجاربه العلمية و طرائقه العلمية في التعامل مع الكون و أسراره و طاقاته و مدخراته ، فلا يفوته شيء من مزايا العلوم التجريبية و الطرائق العلمية(2) .مصادر المعرفة :ليست المادة و حدها مصدر المعرفة الإنسانية ، فهناك مصدران للمعرفة : الوحي و الكون.فمن وراء الغيب المحجوب و من صفحة الكون المشهود، أو بتعبير أخر بين لوحي و الكون ...فالكون كتاب الله المفتوح الذي يصب المعرفة في الكينونة الإنسانية ، كما يصبها الوحي ، مع فارق و احد هو : أن المعرفة التي يتلقاها الإنسان بمداركه في هذا الكون قابلة للخطأ و الصواب ، أما ما يتلقاه من الوحي فهو الحق اليقين فالإنسان متوافق في فطرته و تكوينه مع هذا الكون و سائر الأحياء (3) :( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدئ ) طه :50(و من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) الذاريات :49( الذي جعل لكم الأرض مهدا و سلك لكم فيها سبلا ) طه :53و لذا نجد الدعوة إلى التلقي من كتاب الكون المفتوح و من كتاب النفس المكنون الشيء الكثير(2) :( و في الأرض آيات للموقنين و في أنفسكم أفلا تبصرون ) الذاريات :21( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت و إلى السماء كيف نصبت و إلى الأرض كيف سطحت ) الغاشية : 20و التوجيه إلى استخدام العقل للمعرفة :( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو أذان يسمعون بها فأنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور ) الحج :46(و الله خلقكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة ) النحل :78ثانيا : منهج البحث عند علماء المسلمين:التوحيد قاعدة التفكير :كانت لفظة علم تطلق على كل معرفة مهما كان ميدانها.و لم يفرقوا في الماضي بين العلوم و المعارف ، و لاحقا عرفوا العلم :( المعرفة التي تؤخذ عن طريق الملاحظة و التجربة و الاستنتاج . )و التعريف المعتمد للمعرفة لدى اليونسكو هو: ( المعرفة هي كل معلوم خضع للحس و التجربة )(2).و لكن انطلاقا من تصورنا الخاص للإنسان و الكون و الحياة و فق الرؤية القرآنية يمكن إعادة صياغة التعريف ليكون : ( المعرفة هي كل معلوم دل عليه الوحي و الحس و التجربة ). مع مراعاة الترتيب من حيث القوة و اليقين .و من صور التوحيد الأساسية هي رد الوجود طله بنشأته ابتداء و حركته بعد نشأته و كل انبثاقة فيه و كل تحور و كل تغير و كل تطور ، و الهيمنة عليه و تدبيره و تصريفه و تنسيقه ...رد ذلك كله إلى الإرادة الإلهية.العلم والعقل في التصور الإسلامي1- العلــــــم:1-1-المفهوم:العلـــم هو: إدراك الشيء أو المعني على ما هو عليه في الواقع، وهو مجموعة معارف ظنية راجحة منها ما هو قطعي، حول موضوع ما، وهو يأتي في شكل معرفة منسقة تنشأ عن الوحي أو الملاحظة والدراسة والتجريب، والتي تقوم بغرض تحديد طبيعة وأسس وأصول ما تتم دراستها(1).1-2-الأهداف:الهدف الأساسي للعلم هو الاكتشاف والتفسير للظواهر الكونية والإحاطة بالنظام الذي يحكمها، وبالتالي التنبؤ من خلال معرفة قوانينها بغرض التحكم والضبط، وهذا كله خدمة للإنسان وتسهيلا لحياته، فأهداف العلم إذا هي التفسير والتنبؤ و التحكم.أ- التفسير و الفهم: وهو الهدف الأساسي الذي يسعى العلم إليه، وذلك بالاجتهاد في تفسير القوانين التي تحكم هذا الكون وظواهره والإنسان وسلوكياته، وذلك من خلال الملاحظة والتصنيف والتحليل بواسطة الفرضيات والتأكد من صحتها عن طريق التجربة الحسية والوصول إلى تلك القوانين العلمية الموضوعية والسنن الثابتة المنضبطة .ب- التوقع و الاستشراف: ولمعرفة القوانين العلمية الموضوعية المنضبطة الثابتة، يستطيع الإنسان الاستكشاف والتنبؤ بسير الظواهر الكونية والإنسانية الاجتماعية ومعرفة اتجاهاتها ووضع تصور لمستقبل سيرها وخط صيرورتها.جـ- التحكم و التوجيه: وبامتلاك التصور لسير الظواهر الكونية والإنسانية الاجتماعية وصيرورتها المستقبلية يستطيع الإنسان التحكم والتوجيه والضبط العلمي لهذه الظواهر لصالح الإنسانية سواء بمنعها أو إتمامها وتسهيلها.1-3_الضوابط:عملية البحث عن المعرفة العلمية تتعاون فيه وسائل الحس الظاهرة والباطنة، وموازين العقل الفطرية والمكتسبة، والمعارف المكتسبة ذاتيا أو من خلال الآخرين. فالحواس (اللمس، الذوق، البصر، السمع، الشم) تكسب العلم والمعرفة، فهي بمثابة منافذ للفكر على العالم، فيدرك العلم بشكل مباشر ما تستطيع هذه الحواس أن تحس به وتنقله من صفات الأشياء إلى منطقة الإدراك الفكري ثم تسجل الذاكرة لديها ما تؤكده الحواس بتكرار التجربة، وتبقي حدود العقل داخل دائرة المحسوس لا تتعداه إلى الغيبيات، لأن العقل غير مزود بأدوات معرفتها والوصول إلى حقائقها.وإذا طرق العلم والمعرفة محكومة بمجموعة من الضوابط والأصول حتى يعتد بها، وهي:- الإدراك بالحواس الظاهرة أو الباطنة، ويدخل فيه المجربات لأن إدراكها يعتمد على ملاحظة الحس مضاف تعميم عقلي يأتي عن طريق التمثيل.- إدراك شهادات الآخرين وأخبارهم عن المعارف والعلوم.- إدراك قوانين العقل الذاتية وما يستنبطه العقل ويضبطه من معارف وردت عن طريق الحواس وخبرات الآخرين(1).والفكر يمارس أعماله بتوفر مجموعة من مواد العلم والمعرفة التي ترد إليه عن طريق الحواس الظاهرة والباطنة ويخضعها لموازين أساسية موجودة في أصل فطرته، وهي قوانين الفكر العقلية، وهبا يستطيع الحكم ذاتيا على كثير من الأفكار بالإثبات أو النفي، ومنها:- الحكم بالتوحيد بين الفكر وماهيتها المكونة لها، وهو ما يعبر عنه بما هو هو.- قانون عدم التناقض، ككون الشيء موجودا ومعدوما في آن واحد.- قانون الامتناع، ككون الشيء إما موجودا إما معدوما.- واجب الوجود وواجب العدم وممكن الوجود، وقانون العلة.- تسلسل الدور إلى ما لا نهاية في التصور.- تصور مركبات جديدة غير موجودة في الواقع بهيئتها التركيبية مع وجود أجزائها ... الخ.العقــــل: 1_مكانته: العقل جهاز عظيم وأداة أساسية لإدراك صور المعارف والعلوم من خلال فهم حقائق الأشياء المادية وحقائق المعاني المجردة، وجعله مسئولا عن التفكر في الأدلة الموصلة إلى الحقائق، وهو لا يذكر في القرآن الكريم إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العلم به والرجوع إليه، وال تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة بل مقصودة جازمة مؤكدة باللفظ والدلالة، وتأتي الإشارة إليه شاملة وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها، فلا ينحصر في العقل الوازع و في العقل المدرك ولا في العقل المفكر الذي يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح، بل يعم الخطاب في الآيات القرآنية كلما يتسع له الذهن الإنساني من خاصية أو وظيفة(1).فنهى القرآن الإنسان عن إتباع ما ليس له به علم صحيح، مستندا إلى فهم سليم من خلال وسائل المعرفة ومسؤوليته عن ذلك (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)(الإسراء 17).ودعاه إلى التفكر بغرض التبصر (أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون)(الروم 30).ووجهه إلى التفكر (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون)(الحشر 59).وذم المعطلين لعقولهم (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون)(الأنفال 22).وذم الذين لا يفقهون، والفقه هو الفهم الصحيح للأمور، ونعى عليهم (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم أذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون)(الأعراف 07).2_وظيفته:أعمال العقل كثيرة منها:- استنباط الجزئيات من الكليات وإدراك الكليات من الجزئيات، وتعميم الأحكام عن طريق قوانينه الذاتية أو عن طريق الاستقراء.- قياس الأشباه والنظائر بعضها على بعض.- إجراء عمليات التحليل والتركيب والجمع والتفريق.- إدراك النسب بين المعاني والمدركات.- إدراك الروابط بين المعلولات وعللها العقلية، وبين المسببات وأسبابها المنطقية.- إصدار الأحكام العامة من ملاحظة التجارب المتكررة، ولو لم يكن بين السبب والظاهرة ارتباط عقلي.- إدراك احتمالات اختلاف الكيفيات إلى ما لا نهاية(1).3- ضوابطه:للعقل كما للحس الظاهر والباطن حدود ينتهي إليها بالنظر إلى محدودية الإنسان بين الزمان والمكان.ولذا تنحصر أعمال العقل في المحسوسات، وأما علم الغيب فلا يستطيع العقل مستقلا أن يحكم على شيء منه بإثبات أو نفي إلا ضمن أحكامه الذاتية، فما وراء العقل قد يكون بعيدا عن تصوره وتوهمه بعدا بالغ النهاية، فهناك فرق كبير بين ما لا يدركه العقل، فهو لا يحكم بنفي ولا إثبات لأنه ليس من الأمور التي يتناولها بأحكامه، وما يحكم العقل قطعا بنفيه أو إثباته.العقل والعلم بين المنهج الإسلامي والمناهج الأخرى:لما كانت رسالة الإسلام فاتحة لعهد الرشد البشري كان اهتمامها كبيرا بالغا، فبدأ الوحي بالأمر بالقراءة والإشادة بالعلم (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم)(العلق 1-4).و(ن والقلم وما يسطرون)(القلم 1).والعلم الذي يشيد به القرآن ويدعوا إليه، هو العلم بمفهومه الشامل الذي ينظم كل ما يتصل بالحياة ولا يقتصر على علم الشريعة، فقد دعا إلى النظر في ظواهر الوجود ومظاهر الحياة، كما دعا إلى دراسة الكائن البشري (وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون)(الذاريات 20-21).ووجه إلى علم النباتات و الجماد والحيوان والأجناس(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور)(فاطر 27-28).وجعل الكون كتابا للمعرفة، ووجه العقول والقلوب والأبصار إلى التفكير في آياته واستنكاه أسراره وفهم نظمه ونواميسه عن طريق البحث والدراسة، وهو منهج واقعي يدعوا إلى عالم الحس والتجربة.هذا بينما قامت فلسفة اليونان -مثلا- على أساس التفكير النظري المجرد وأغفلت الواقع المحسوس، ذلك أن منهج التجريد لا يدعوا إلى نظر ولا يؤدي إلى كشف ولا يعدوا كونه رياضة ذهنية ليس بينه وبين الحياة ومطالبها صلة، ذلك أنه فكر مثالي تجريدي يحلق بعيدا عن الواقع ومعطيات الواقع ومتطلبات هذا الواقع(1).
المصدر
اسلامى,شرح,ادب,ابداع,منوعات,اسلامية,
معالم نظرية التكامل المعرفي في المنهج الإسلامي,معالم نظرية التكامل المعرفي في المنهج الإسلامي,معالم نظرية التكامل المعرفي في المنهج الإسلامي,معالم نظرية التكامل المعرفي في المنهج الإسلامي
from منتديات الإسلام اليوم http://ift.tt/1oZX2Fi
via موقع الاسلام
الكاتب : نصير زرواق | القسم : نقد ومراجعات
مقدمة و تمهيد : مما لا جدال فيه ، إن العقل المسلم، و لد، حين و لد حضاريا، متوازنا في أصوله، متكاملا في مقاصده، متناسقا في أجزائه، و نفى عن نفسه منذ لحظة ميلاده،ثنائية الوحي أو العقل ، أو ازدواجية العقيدة أو الفكر، أو جدلية الدين أو الدنيا، ومن ثم لم يشهد تصادما ، في تاريخه الحضاري، ذي بال بين الغيب المحجوب و الكون المشهود، و لم يقم حاجزا بين المادة و الروح، و لم يفصل بين الدين و الحياة.. بل مضى متوازنا متكافئا، موفقا بين التناقضات و الثنائيات التي تطبع الإنسان و الكون و الحياة.و قد اتسم بالشمول و الإيجابية في علاقة هذه الموجودات بعضها مع بعض: الإنسان و الكون و الحياة، على أساس التوحيد الذي أعطى ذلك التفسير الشامل و الايجابي في علاقة الموجودات بالواجد سبحانه، و بالتالي برأ الفكر الإسلامي من لوثة الازدواجية أو الثنائية التي دمغت الفكر الغربي الذي و لد من رحم الجدلية و الثنائية و الازدواجية بين الدين و الدنيا ، و بين الوحي و العقل ، وبين الغيب و الشهادة، و بين المادة و الروح،و هو ماتبناه لاحقا في منظومته الفكرية بعد الانتصار على الكنيسة المتحالفة مع الإقطاع، و هو سر ولادة المنظومة الفكرية الغربية ولادة حضارية مشوهة، تحت رايات العلم و البحث العلمي الذي لا يعترفا إلا بالتجربة أساسا و مقياسا لصدقية الأحكام أو عدم صدقتيها و التي أساسها الحس ، و التي سحبها الفكر الغربي على كافة الحقول المعرفية و الفروع العلمية ، حتى تلك التي تتعلق بدراسة النفس الإنسانية أو الدراسات الاجتماعية و لاقتصادية، وما عجز عن تفسيره علميا عن طريق مناهج البحث يفسره تفسيرا ماديا ن حتى و لو لم يكن المفسر من جنس المادة. و بما إن الأمة الإسلامية تقتات على إنتاج الحضارة الغربية المادية،و تحذو مناهجها التعليمة حذو الغربية ، و إن لم تصل إلى حد نبذ الدين جملة، فوضعت ، اقتداء بما تركه المستعمر في الغالب من تقليد و ما كونه من نخب، مناهج خاصة بالدراسات الدينية ، و أخرى خاصة بالمناهج التجريبية ،و أقامت حاجزا بين المنهجين ، و حجرت على التقليدي في فضاء التراث، غير المصفى،و فتحت الأفاق للتقدمي على أساس أنه سر النهضة و الفتح المادي. و هي نظرة لم تراعي خصوصية الإسلام و لا خصوصية المسلمين ، و هو ما ولد تنازعا غريبا في تكوين جيل لا يستطيع التوفيق بين المادة و الروح أو بين الدين و الدنيا، و التوفيق بين الوحي و العقل و بين العقيدة و الفكر، و بالتالي ضاعت تلك الرؤية الشمولية المتوازنة التي أسسها الجيل الأول و التي قامت عليها الحضارة الإسلامية في بدايات ميلادها،و قامت على هديها مناهجها التعليمية و التربوية في بغداد و دمشق و القاهرة و فاس و الأندلس و غيرها من الأمصار،و أنتجت عقليات كبيرة و نظارا كبارا لم يشعروا بالتنازع بين الدين و الدنيا و بين العقيدة و الفكر و بين الوحي و العقل.و إن وجدت مناقشات و جدل هنا و هناك، و لكنه لم يخل بأصل التوازن و التناسق و الشمول الذي بقي الخط الأكبر و التوجه العام الذي ضبط مسيرة المناهج التعليمية و التربوية ، و التي أسهمت في الإنتاج الإنساني المشترك، بل و كان أساس الحضارة الحديثة و المدنية القائمة اليوم. و عليه، سنحاول في هذه الورقة إتباع المنهج الاستقرائي والمنهج التاريخي ، في عرض نظرية التكامل المعرفي في المنهج الإسلامي و عرض نظريته التي اتسمت بالشمول و التوازن وهو ماوسم الفكر الإسلامي في قوته، وطبعه على امتداد مسيرته، قبل التوقف الحضاري ،و الاستسلام للحضارة الغربية القائمة.و هذه الورقة تلامس المحو الثني المتعلق بوصف التكامل المعرفي إطارا فلسفيا لمناهج التعليم الجامعي، وذلك بطرح أصول و أساسيات فكرة التكامل المعرفي في محاولة لعرضها بقصد تفعيلها كأصل و أساس لكل المعرف و العلوم ابتداء، مع عرض ما تتركه للاجتهاد العقلي من مساحة و فضاء فيما وراء تلك الأصول و تلك الأسس. أولا :مصادر المعرفة بين الوحي والعقلأولا: العقيدة والفكر:1- العقيدة: هناك حقيقتين أساسيتين متلازمتين للحياة البشرية، والنفس البشرية،على كل حال وفي كل زمان؛ الحقيقة الأولى: أن هذا الإنسان -بفطرته- لا يملك أن يستقر في هذا الكون ذرة تائهة مغفلة ضائعة، فلا بد له من رباط معني بهذا الكون، يضمن له الاستقرار فيه، ومعرفة مكانه في هذا الكون الذي يستقر فيه، فلا بد له إذن من عقيدة تفسر له مكانه فيما حوله، فهي ضرورة فطرية شعورية، لا علاقة لها بملابسات العصر والبيئة(1). والحقيقة الأخرى: هي أن هناك تلازما وثيقا بين طبيعة التصور الإعتقادي، وطبيعة النظام الاجتماعي، ... تلازما لا ينفصل، ولا يتعلق بملابسات العصر والبيئة، .. بل إن هناك ما هو أكثر من التلازم ... هناك الانبثاق الذاتي...فمن وظائف العقيدة البيان والتفسير، بيان منهج التعامل، وتفسير الحقائق التي يعجز العقل البشــري عــن إيجـــاد تفسير لها.في إطار الكون الذي يعيش فيه، وأهم ما تزود به العقيدة الإنسان:أ- تربية الإدراك وتقويم منهج النظر والحكم(2):- (ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا)(الإسراء 36).- (إن الظن لا يغني من الحق شيئا)(يونس 36).ب- في النظر في النفس والآفاق:- (قل انظروا ماذا في السموات والأرض)(يونس 101).- (وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون)(الذاريات 20-21).-(قل سيروا فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ، إن الله على كل شيء قدير) (العنكبوت 20).ثانيا: ثبات العقيدة وتغير الفكر:ولا تنازع بين العقيدة والتفكير، فالتصور الإسلامي يدع للعقل البشري وللعلم ميدانا واسعا كاملا، فيما وراء أصل التصور ومقوماته، ولا يقف دون العقل يصره عن البحث في الكون، بل هو يدعوه إلى هذا البحث ويدفعه إليه دفعا. ولا يقف دون العلم البشري في المجال الكوني، بل هو بكل أمر الخلافة لله، في حدود التصور الرباني، للعقل البشري وللعلم البشري.وبناء على ما تقدم هناك ثبات في مقومات هذا التصور الأساسية، وقيمه الذاتية، فهي لا تتغير ولا تتطور، حينما تتغير ظواهر الحياة الواقعية، وأشكال الأوضاع العملية، فهذا التغير في ظواهر الحياة وأشكال الأوضاع يظل مكونا بالمقومات والقيم الثابتة لهذا التصور، ولا يقتضي هذا تحميد حركة الفكر والحياة، ولكنه يقتضي السماح لها بالحركة –بل دفعها إلى الحركة- ولكل داخل هذا الإطار الثابت، وحول هذا المحور الثابت(1)،(2).على أن المنظومة الإسلامية، وهي تضع هذا النظام، في علاقة العقيدة بالفكر - وهو ما نبذه ويرفضه بل ويعاديه العقل الغربي- له جملة من الإيجابيات أهمها:أ- ضبط حركة البشرية: فلا تمضي البشرية شاردة من غير هدى، كما وقع في الحياة الأوربية عندما أفلتت من عروة العقيدة.ب- ضبط مجال تفكير العقل.جـ - التقويم: وجود مقوم للفكر الإنساني، مقوم منضبط بذاته، يمكن أن يعصم الفكر الإنساني، فلا يتأرجح مع الشهوات والمؤثرات. ثالثا: العقيدة وصيانة الطاقة الفكرية زود العقل بطاقات كبيرة هائلة، تسعفه في التكليف مع الكون واستغلاله في حدود المعقول لسد حاجاته، ولكن هذا العقل يعجز عن تفسير كثير من الحقائق، ولا يبلغ إدراك أسرار ما حوله(1). فهذه الحياة كيف انبثقت في المادة؟ وكيف بارت، وتسير سيرتها هذه العجيبة المحوطة بالآلاف من الموافقات والموازنات والتقديرات المرسومة المحسوبة بهذا الحساب الدقيق ... أي المسافة بين الوجود والعدم مسافة لا يكاد يعبرها العقل البشري، فكيف وجد هذا العالم، وكيف وجدت هذه الطبيعة... إذا كانوا يعنون بها الوجود المادي، والمسافة بين الكلية الجامدة والكلية الحية، لكن المسافة التي بين الوجود والعدم، إنها كذلك مسافة هائلة لا يعبرها العقل البشري إلا بالإحالة على تلك الإرادة المبدئية، التي تنشئ كل شيء إنشاء وتبدع إبداعا إرادة الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى(2).فالعقيدة تخاطب العقل وتحدثه عن المادة والأحياء، فتعرفهم مصدر الحياة ومصدر الأحياء:- (وخلقنا من الماء كل شيء حي)(الأنبياء 30).- (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء)(هود 6).- (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج)(الحج 5).- (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون)().كما تمرن العقيدة العقل عن الاهتمام حديثا مستفيضا، مصدره ومنشأه وطبيعته ومركزه وغاية وجوده:- (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون)(الحجر 26).- (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)(البقرة 30).- (أولم يرى الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين)(يس 77).- (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا)(الكهف 54).- (إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا)(المعارج 19-21).وتبرز الحاجة الإنسانية كلها إلى العقيدة الصحيحة عن الإنسان و الكون و الحياة و ما وراء ذلك ، من أجل تفسير ما يعجز العقل عن تفسيره(1).توازن الفكر : لا شك أن الفكر البشري يتوازن حين يجد تفسيرا لما يعجز عقله عن تفسيره ، من مجهول، و هو الجانب الذي تتلقاه الكينونة الإنسانية لتدركه و تسلم به، و ينتهي عملها عندا لتسليم .و الجانب الثاني الذي تتلقاه الكينونة الإنسانية لتدركه و تبحث حججه و براهينه ، و تحاول معرفة علله و غاياته ، و تفكر في مقتضياته العلمية و تطبيقها في الحياة الواقعية... و بذلك يقف الضمير البشري على أرض ثابتة مستقرة يتعرف إلى نواميس الكون و سنن الحياة و طاقات الأرض و ينتفع بها و بتجاربه العلمية و طرائقه العلمية في التعامل مع الكون و أسراره و طاقاته و مدخراته ، فلا يفوته شيء من مزايا العلوم التجريبية و الطرائق العلمية(2) .مصادر المعرفة :ليست المادة و حدها مصدر المعرفة الإنسانية ، فهناك مصدران للمعرفة : الوحي و الكون.فمن وراء الغيب المحجوب و من صفحة الكون المشهود، أو بتعبير أخر بين لوحي و الكون ...فالكون كتاب الله المفتوح الذي يصب المعرفة في الكينونة الإنسانية ، كما يصبها الوحي ، مع فارق و احد هو : أن المعرفة التي يتلقاها الإنسان بمداركه في هذا الكون قابلة للخطأ و الصواب ، أما ما يتلقاه من الوحي فهو الحق اليقين فالإنسان متوافق في فطرته و تكوينه مع هذا الكون و سائر الأحياء (3) :( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدئ ) طه :50(و من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) الذاريات :49( الذي جعل لكم الأرض مهدا و سلك لكم فيها سبلا ) طه :53و لذا نجد الدعوة إلى التلقي من كتاب الكون المفتوح و من كتاب النفس المكنون الشيء الكثير(2) :( و في الأرض آيات للموقنين و في أنفسكم أفلا تبصرون ) الذاريات :21( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت و إلى السماء كيف نصبت و إلى الأرض كيف سطحت ) الغاشية : 20و التوجيه إلى استخدام العقل للمعرفة :( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو أذان يسمعون بها فأنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور ) الحج :46(و الله خلقكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة ) النحل :78ثانيا : منهج البحث عند علماء المسلمين:التوحيد قاعدة التفكير :كانت لفظة علم تطلق على كل معرفة مهما كان ميدانها.و لم يفرقوا في الماضي بين العلوم و المعارف ، و لاحقا عرفوا العلم :( المعرفة التي تؤخذ عن طريق الملاحظة و التجربة و الاستنتاج . )و التعريف المعتمد للمعرفة لدى اليونسكو هو: ( المعرفة هي كل معلوم خضع للحس و التجربة )(2).و لكن انطلاقا من تصورنا الخاص للإنسان و الكون و الحياة و فق الرؤية القرآنية يمكن إعادة صياغة التعريف ليكون : ( المعرفة هي كل معلوم دل عليه الوحي و الحس و التجربة ). مع مراعاة الترتيب من حيث القوة و اليقين .و من صور التوحيد الأساسية هي رد الوجود طله بنشأته ابتداء و حركته بعد نشأته و كل انبثاقة فيه و كل تحور و كل تغير و كل تطور ، و الهيمنة عليه و تدبيره و تصريفه و تنسيقه ...رد ذلك كله إلى الإرادة الإلهية.العلم والعقل في التصور الإسلامي1- العلــــــم:1-1-المفهوم:العلـــم هو: إدراك الشيء أو المعني على ما هو عليه في الواقع، وهو مجموعة معارف ظنية راجحة منها ما هو قطعي، حول موضوع ما، وهو يأتي في شكل معرفة منسقة تنشأ عن الوحي أو الملاحظة والدراسة والتجريب، والتي تقوم بغرض تحديد طبيعة وأسس وأصول ما تتم دراستها(1).1-2-الأهداف:الهدف الأساسي للعلم هو الاكتشاف والتفسير للظواهر الكونية والإحاطة بالنظام الذي يحكمها، وبالتالي التنبؤ من خلال معرفة قوانينها بغرض التحكم والضبط، وهذا كله خدمة للإنسان وتسهيلا لحياته، فأهداف العلم إذا هي التفسير والتنبؤ و التحكم.أ- التفسير و الفهم: وهو الهدف الأساسي الذي يسعى العلم إليه، وذلك بالاجتهاد في تفسير القوانين التي تحكم هذا الكون وظواهره والإنسان وسلوكياته، وذلك من خلال الملاحظة والتصنيف والتحليل بواسطة الفرضيات والتأكد من صحتها عن طريق التجربة الحسية والوصول إلى تلك القوانين العلمية الموضوعية والسنن الثابتة المنضبطة .ب- التوقع و الاستشراف: ولمعرفة القوانين العلمية الموضوعية المنضبطة الثابتة، يستطيع الإنسان الاستكشاف والتنبؤ بسير الظواهر الكونية والإنسانية الاجتماعية ومعرفة اتجاهاتها ووضع تصور لمستقبل سيرها وخط صيرورتها.جـ- التحكم و التوجيه: وبامتلاك التصور لسير الظواهر الكونية والإنسانية الاجتماعية وصيرورتها المستقبلية يستطيع الإنسان التحكم والتوجيه والضبط العلمي لهذه الظواهر لصالح الإنسانية سواء بمنعها أو إتمامها وتسهيلها.1-3_الضوابط:عملية البحث عن المعرفة العلمية تتعاون فيه وسائل الحس الظاهرة والباطنة، وموازين العقل الفطرية والمكتسبة، والمعارف المكتسبة ذاتيا أو من خلال الآخرين. فالحواس (اللمس، الذوق، البصر، السمع، الشم) تكسب العلم والمعرفة، فهي بمثابة منافذ للفكر على العالم، فيدرك العلم بشكل مباشر ما تستطيع هذه الحواس أن تحس به وتنقله من صفات الأشياء إلى منطقة الإدراك الفكري ثم تسجل الذاكرة لديها ما تؤكده الحواس بتكرار التجربة، وتبقي حدود العقل داخل دائرة المحسوس لا تتعداه إلى الغيبيات، لأن العقل غير مزود بأدوات معرفتها والوصول إلى حقائقها.وإذا طرق العلم والمعرفة محكومة بمجموعة من الضوابط والأصول حتى يعتد بها، وهي:- الإدراك بالحواس الظاهرة أو الباطنة، ويدخل فيه المجربات لأن إدراكها يعتمد على ملاحظة الحس مضاف تعميم عقلي يأتي عن طريق التمثيل.- إدراك شهادات الآخرين وأخبارهم عن المعارف والعلوم.- إدراك قوانين العقل الذاتية وما يستنبطه العقل ويضبطه من معارف وردت عن طريق الحواس وخبرات الآخرين(1).والفكر يمارس أعماله بتوفر مجموعة من مواد العلم والمعرفة التي ترد إليه عن طريق الحواس الظاهرة والباطنة ويخضعها لموازين أساسية موجودة في أصل فطرته، وهي قوانين الفكر العقلية، وهبا يستطيع الحكم ذاتيا على كثير من الأفكار بالإثبات أو النفي، ومنها:- الحكم بالتوحيد بين الفكر وماهيتها المكونة لها، وهو ما يعبر عنه بما هو هو.- قانون عدم التناقض، ككون الشيء موجودا ومعدوما في آن واحد.- قانون الامتناع، ككون الشيء إما موجودا إما معدوما.- واجب الوجود وواجب العدم وممكن الوجود، وقانون العلة.- تسلسل الدور إلى ما لا نهاية في التصور.- تصور مركبات جديدة غير موجودة في الواقع بهيئتها التركيبية مع وجود أجزائها ... الخ.العقــــل: 1_مكانته: العقل جهاز عظيم وأداة أساسية لإدراك صور المعارف والعلوم من خلال فهم حقائق الأشياء المادية وحقائق المعاني المجردة، وجعله مسئولا عن التفكر في الأدلة الموصلة إلى الحقائق، وهو لا يذكر في القرآن الكريم إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العلم به والرجوع إليه، وال تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة بل مقصودة جازمة مؤكدة باللفظ والدلالة، وتأتي الإشارة إليه شاملة وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها، فلا ينحصر في العقل الوازع و في العقل المدرك ولا في العقل المفكر الذي يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح، بل يعم الخطاب في الآيات القرآنية كلما يتسع له الذهن الإنساني من خاصية أو وظيفة(1).فنهى القرآن الإنسان عن إتباع ما ليس له به علم صحيح، مستندا إلى فهم سليم من خلال وسائل المعرفة ومسؤوليته عن ذلك (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)(الإسراء 17).ودعاه إلى التفكر بغرض التبصر (أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون)(الروم 30).ووجهه إلى التفكر (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون)(الحشر 59).وذم المعطلين لعقولهم (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون)(الأنفال 22).وذم الذين لا يفقهون، والفقه هو الفهم الصحيح للأمور، ونعى عليهم (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم أذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون)(الأعراف 07).2_وظيفته:أعمال العقل كثيرة منها:- استنباط الجزئيات من الكليات وإدراك الكليات من الجزئيات، وتعميم الأحكام عن طريق قوانينه الذاتية أو عن طريق الاستقراء.- قياس الأشباه والنظائر بعضها على بعض.- إجراء عمليات التحليل والتركيب والجمع والتفريق.- إدراك النسب بين المعاني والمدركات.- إدراك الروابط بين المعلولات وعللها العقلية، وبين المسببات وأسبابها المنطقية.- إصدار الأحكام العامة من ملاحظة التجارب المتكررة، ولو لم يكن بين السبب والظاهرة ارتباط عقلي.- إدراك احتمالات اختلاف الكيفيات إلى ما لا نهاية(1).3- ضوابطه:للعقل كما للحس الظاهر والباطن حدود ينتهي إليها بالنظر إلى محدودية الإنسان بين الزمان والمكان.ولذا تنحصر أعمال العقل في المحسوسات، وأما علم الغيب فلا يستطيع العقل مستقلا أن يحكم على شيء منه بإثبات أو نفي إلا ضمن أحكامه الذاتية، فما وراء العقل قد يكون بعيدا عن تصوره وتوهمه بعدا بالغ النهاية، فهناك فرق كبير بين ما لا يدركه العقل، فهو لا يحكم بنفي ولا إثبات لأنه ليس من الأمور التي يتناولها بأحكامه، وما يحكم العقل قطعا بنفيه أو إثباته.العقل والعلم بين المنهج الإسلامي والمناهج الأخرى:لما كانت رسالة الإسلام فاتحة لعهد الرشد البشري كان اهتمامها كبيرا بالغا، فبدأ الوحي بالأمر بالقراءة والإشادة بالعلم (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم)(العلق 1-4).و(ن والقلم وما يسطرون)(القلم 1).والعلم الذي يشيد به القرآن ويدعوا إليه، هو العلم بمفهومه الشامل الذي ينظم كل ما يتصل بالحياة ولا يقتصر على علم الشريعة، فقد دعا إلى النظر في ظواهر الوجود ومظاهر الحياة، كما دعا إلى دراسة الكائن البشري (وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون)(الذاريات 20-21).ووجه إلى علم النباتات و الجماد والحيوان والأجناس(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور)(فاطر 27-28).وجعل الكون كتابا للمعرفة، ووجه العقول والقلوب والأبصار إلى التفكير في آياته واستنكاه أسراره وفهم نظمه ونواميسه عن طريق البحث والدراسة، وهو منهج واقعي يدعوا إلى عالم الحس والتجربة.هذا بينما قامت فلسفة اليونان -مثلا- على أساس التفكير النظري المجرد وأغفلت الواقع المحسوس، ذلك أن منهج التجريد لا يدعوا إلى نظر ولا يؤدي إلى كشف ولا يعدوا كونه رياضة ذهنية ليس بينه وبين الحياة ومطالبها صلة، ذلك أنه فكر مثالي تجريدي يحلق بعيدا عن الواقع ومعطيات الواقع ومتطلبات هذا الواقع(1).
المصدر
اسلامى,شرح,ادب,ابداع,منوعات,اسلامية,
معالم نظرية التكامل المعرفي في المنهج الإسلامي,معالم نظرية التكامل المعرفي في المنهج الإسلامي,معالم نظرية التكامل المعرفي في المنهج الإسلامي,معالم نظرية التكامل المعرفي في المنهج الإسلامي
from منتديات الإسلام اليوم http://ift.tt/1oZX2Fi
via موقع الاسلام
0 التعليقات:
إرسال تعليق