الوطن الغالي
الكاتب : د. إبراهيم قويدر | القسم : تربية ومجتمع

عندما يخترق الإنسان عالم الحياة بلحظات ميلاده ينتقل من عالم صغير هادئ كان يعيش فيه في رحم "ست الحبايب" التي حملته تسعة أشهر كاملة، وهو لا يعرف الزمن ولا القياس ولا يفقه شيئًا إلا بالقدر الذي يمنحه له الخالق عز وجل بأن يبدأ في التحرك؛ ولكنه لا يستطيع أن يستكشف شيئًا إلى أن يأتي ميعاده الذي لا يعرفه هو ولا أمه أيضًا، وحتي بعد تقدم الطب والعلوم فقد يعرف الأطباء التاريخ التقريبي لميلاده، ولكنهم لا يمكنهم أن يعرفوا اللحظة التي تتم فيها الولادة، لأنها لحظة سرية، كما تكون نهايته سرية، ولا يعلمها إلا الخالق عز وجل، ومهما تقدم العلم فقد يقولون إن هذا مهدد بالموت والتهديد بالمرض نتائجه دائمًا تقريبية، فميلاد الإنسان وموته بأمر الله سبحانه وتعالى. هكذا هي الحياة البشرية تكون بدايتها اختراق عالم مجهول يتحرك فيه ذلك المخلوق الصغير ليبدأ رحلته مع الاستكشاف- استكشاف المحيط الذي حوله- ثم بالشعور بمن حوله ثم يبدأ تدريجيا في استعمال حواسه الطبيعية ليتكامل ذلك خلال فترة زمنيه محسوبة. إذن الإنسان يولد منفردًا؛ ولكنه يكتسب اجتماعيته ككائن من خلال استكشافه لمحيطه والتأثير المتبادل بينه وبين من يعيشون معه، حيث يكون ذلك الأساس المبدئي في تكوين شخصيته، وبعض سلوكه، وإن لم يكن جله، وذلك من خلال التراكم المعرفي لتعامله الذي يبدأ من محيط الذي نشأ فيه مع أسرته وعائلته، ثم الحي الذي يقطنه ومن ثم يرقى إلى مستوى قريته أو مدينته فيزداد إدراكه بهذا الكون، ليعرف وطنه وموقعه من هذا الكون، ويتعرف خلال مسيرته على مجموعة من المعتقدات الاجتماعية والدينية التي تشكل هويته. إن هذه الهوية هي مواطنة قبل كل شيء، ويجب أن يدرك الجميع ذلك، ومن خلال هذه المواطنة ننطلق إلى المعتقدات المكتسبة، سواء كانت دينية أو اجتماعية، فالوطن غالٍ، ومن ليس له خير في وطنه حتمًا فستجده مع الأيام ليس له خير في كل معتقداته. هذا رأي قد يختلف البعض معي فيه وقد يؤيده البعض الآخر، ولكن علماء الاجتماع من ابن خلدون إلي المحدثين يؤيدون هذا الاتجاه المنطقي و"الترتيب النشأوي". كنت وما زلت أقول: إن من يحب أسرته يحب شارعه، ومن يحب شارعه يحب الحي الذي يعيش فيه، ومن يحب الحي الذي يعيش فيه يحب مدينته، ومن يحب مدينته يحب بلاده، ومن يحب بلاده يحب أمته، وإنني- العبد لله- نشأت محبًّا لأسرتي، أحببت منها شارع قصر حمد، ومنه أحببت محلة الدراوي، ومنها أحببت بنغازي، ومن حبي العميق لبنغازي أحببت ليبيا بكل مناطقها، صحاريها، وبرها، وبحرها، شمالها وجنوبها، وشرقها وغربها، ومن خلال حبي لليبيا تعلمت في فترة شبابي حب وطني العربي الغالي وتوجهاتنا القومية في ذلك الوقت بدون انحياز أو دخول في حركة "القوميون العرب"، ومن حبي للوطن العربي عشقت الأمة الإسلامية التي تحمل راية القرآن ورسولنا محمد صلي الله عليه وسلم، قائدًا ومعلمًا عربيًّا قبل أن ينزل عليه الوحي، ولحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالي اختاره ليكون آخر الأنبياء والمرسلين، فالإسلام والعروبة مكملان لبعضهما البعض، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن ينحصر الإيمان بالإسلام في جنس العرب فقط، لأنه دين عالمي يدخل فيه كل الأجناس، ولكن أصله عربي. هذه الأمور جرت وتجري بهذا الشكل، مهما فسر المفسرون، ومهما حاول المفكرون أصحاب النوايا السياسية أن يقوقعوا العروبة عن الإسلام أو يحملوا شعار الإسلامية لمحاربة الشعور القومي العربي. إن هذا الحب إذا ما تزود بأخلاقيات وسلوكيات الإسلام في الحياة التي علمنا إياها سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم قولاً وعملاً، لتكاملت الصورة عند الإنسان المخلوق الاجتماعي بطبعيه، حيث يتكون إنسان صادق أمين يحب لأخيه وجاره ما يحبه لنفسه، يزيل الأذى عن الآخرين ويحترم حرياتهم وخصوصياتهم، ويتعامل مع الجميع باحترام وأخلاق تتجلى فيها: العمل على نصرة المظلوم ونبذ العنصرية والتمييز ومحاربة التطرف في كافة مناحي الحياة ونبذ العنف بكافة أشكاله وألوانه والعمل على إشاعة التعاون والهداية بالحسنى والتعامل في كافة الأمور بمشاركة كل الناس واحترام آرائهم، وإن اختلفت مع ما يحمله الإنسان من آراء. لقد ساهمت عوامل كثيرة في حياتي، أن أعرف وطني جيدًا، عرفت مشرقه لأن أسرتي وأجدادي وأجدادهم وُلدوا فيه، وزرت كل القرى والنجوع بدءًا من "امساعد" إلى "طبرق" مرورًا بـ"التميمي" إلي الفتايح"، وشلال درنة، درنة، القبة، القيقب، شحات، البيضاء، المخيلي، المرج، سلنطة، العويلية، طلميثة، الباكور، توكرة، برسس، دريانة، سيدي خليفة، والكويفية، وكل تفرعات ومناطق بنغازي وتيكا وقاريونس والمقرون وأجدابيا والعقيلة والبريقة، ورأس لانوف والسدرة وبن جواد وسرت والهيشة وتاورغاء ومصراتة بكل فروعها، وزليتن، وترهونة، وبني وليد، والخمس، والقرهبولي، وطرابلس بكل فروعها، والزاوية، وزوارة، وغريان، والجبل الغربي، وبكل تفرعاته، وغدامس، وغات، وهون، ومرزق، والكفرة، وجالو، وأوجلة، وأوباري، وبراك، وسبها، وحتى قرى الجنوب زرت معظمها ولي في كل هذه الأماكن ذكريات وناس أعرفهم، احترمهم ويحترمونني. إن هذا الوطن الغالي أخاف عليه هذه الأيام من الرياح التي تعصف به يمينًا وشمالاً، أخاف عليه من لا يخفون الله فيه وفي ناسه الطيبين، ولكني أقول: إن طيبة أهلي في كل هذه المناطق ستجعل المولى يقف معهم ويحميهم حتى من ظلمهم لأنفسهم بأن يهديهم إلي طريق الصواب. حفظ الله ليبيا، وحفظ الله أمتنا العربية، وأعز الله الإسلام الدين الحي الذي يسعى إلى التسامح ونبذ العنف وإشاعة المحبة بين الناس أجمعين.
المصدر
اسلامى,شرح,ادب,ابداع,منوعات,اسلامية,
الوطن الغالي,الوطن الغالي,الوطن الغالي,الوطن الغالي
from منتديات الإسلام اليوم http://ift.tt/1gFCcMR
via موقع الاسلام
الكاتب : د. إبراهيم قويدر | القسم : تربية ومجتمع
عندما يخترق الإنسان عالم الحياة بلحظات ميلاده ينتقل من عالم صغير هادئ كان يعيش فيه في رحم "ست الحبايب" التي حملته تسعة أشهر كاملة، وهو لا يعرف الزمن ولا القياس ولا يفقه شيئًا إلا بالقدر الذي يمنحه له الخالق عز وجل بأن يبدأ في التحرك؛ ولكنه لا يستطيع أن يستكشف شيئًا إلى أن يأتي ميعاده الذي لا يعرفه هو ولا أمه أيضًا، وحتي بعد تقدم الطب والعلوم فقد يعرف الأطباء التاريخ التقريبي لميلاده، ولكنهم لا يمكنهم أن يعرفوا اللحظة التي تتم فيها الولادة، لأنها لحظة سرية، كما تكون نهايته سرية، ولا يعلمها إلا الخالق عز وجل، ومهما تقدم العلم فقد يقولون إن هذا مهدد بالموت والتهديد بالمرض نتائجه دائمًا تقريبية، فميلاد الإنسان وموته بأمر الله سبحانه وتعالى. هكذا هي الحياة البشرية تكون بدايتها اختراق عالم مجهول يتحرك فيه ذلك المخلوق الصغير ليبدأ رحلته مع الاستكشاف- استكشاف المحيط الذي حوله- ثم بالشعور بمن حوله ثم يبدأ تدريجيا في استعمال حواسه الطبيعية ليتكامل ذلك خلال فترة زمنيه محسوبة. إذن الإنسان يولد منفردًا؛ ولكنه يكتسب اجتماعيته ككائن من خلال استكشافه لمحيطه والتأثير المتبادل بينه وبين من يعيشون معه، حيث يكون ذلك الأساس المبدئي في تكوين شخصيته، وبعض سلوكه، وإن لم يكن جله، وذلك من خلال التراكم المعرفي لتعامله الذي يبدأ من محيط الذي نشأ فيه مع أسرته وعائلته، ثم الحي الذي يقطنه ومن ثم يرقى إلى مستوى قريته أو مدينته فيزداد إدراكه بهذا الكون، ليعرف وطنه وموقعه من هذا الكون، ويتعرف خلال مسيرته على مجموعة من المعتقدات الاجتماعية والدينية التي تشكل هويته. إن هذه الهوية هي مواطنة قبل كل شيء، ويجب أن يدرك الجميع ذلك، ومن خلال هذه المواطنة ننطلق إلى المعتقدات المكتسبة، سواء كانت دينية أو اجتماعية، فالوطن غالٍ، ومن ليس له خير في وطنه حتمًا فستجده مع الأيام ليس له خير في كل معتقداته. هذا رأي قد يختلف البعض معي فيه وقد يؤيده البعض الآخر، ولكن علماء الاجتماع من ابن خلدون إلي المحدثين يؤيدون هذا الاتجاه المنطقي و"الترتيب النشأوي". كنت وما زلت أقول: إن من يحب أسرته يحب شارعه، ومن يحب شارعه يحب الحي الذي يعيش فيه، ومن يحب الحي الذي يعيش فيه يحب مدينته، ومن يحب مدينته يحب بلاده، ومن يحب بلاده يحب أمته، وإنني- العبد لله- نشأت محبًّا لأسرتي، أحببت منها شارع قصر حمد، ومنه أحببت محلة الدراوي، ومنها أحببت بنغازي، ومن حبي العميق لبنغازي أحببت ليبيا بكل مناطقها، صحاريها، وبرها، وبحرها، شمالها وجنوبها، وشرقها وغربها، ومن خلال حبي لليبيا تعلمت في فترة شبابي حب وطني العربي الغالي وتوجهاتنا القومية في ذلك الوقت بدون انحياز أو دخول في حركة "القوميون العرب"، ومن حبي للوطن العربي عشقت الأمة الإسلامية التي تحمل راية القرآن ورسولنا محمد صلي الله عليه وسلم، قائدًا ومعلمًا عربيًّا قبل أن ينزل عليه الوحي، ولحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالي اختاره ليكون آخر الأنبياء والمرسلين، فالإسلام والعروبة مكملان لبعضهما البعض، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن ينحصر الإيمان بالإسلام في جنس العرب فقط، لأنه دين عالمي يدخل فيه كل الأجناس، ولكن أصله عربي. هذه الأمور جرت وتجري بهذا الشكل، مهما فسر المفسرون، ومهما حاول المفكرون أصحاب النوايا السياسية أن يقوقعوا العروبة عن الإسلام أو يحملوا شعار الإسلامية لمحاربة الشعور القومي العربي. إن هذا الحب إذا ما تزود بأخلاقيات وسلوكيات الإسلام في الحياة التي علمنا إياها سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم قولاً وعملاً، لتكاملت الصورة عند الإنسان المخلوق الاجتماعي بطبعيه، حيث يتكون إنسان صادق أمين يحب لأخيه وجاره ما يحبه لنفسه، يزيل الأذى عن الآخرين ويحترم حرياتهم وخصوصياتهم، ويتعامل مع الجميع باحترام وأخلاق تتجلى فيها: العمل على نصرة المظلوم ونبذ العنصرية والتمييز ومحاربة التطرف في كافة مناحي الحياة ونبذ العنف بكافة أشكاله وألوانه والعمل على إشاعة التعاون والهداية بالحسنى والتعامل في كافة الأمور بمشاركة كل الناس واحترام آرائهم، وإن اختلفت مع ما يحمله الإنسان من آراء. لقد ساهمت عوامل كثيرة في حياتي، أن أعرف وطني جيدًا، عرفت مشرقه لأن أسرتي وأجدادي وأجدادهم وُلدوا فيه، وزرت كل القرى والنجوع بدءًا من "امساعد" إلى "طبرق" مرورًا بـ"التميمي" إلي الفتايح"، وشلال درنة، درنة، القبة، القيقب، شحات، البيضاء، المخيلي، المرج، سلنطة، العويلية، طلميثة، الباكور، توكرة، برسس، دريانة، سيدي خليفة، والكويفية، وكل تفرعات ومناطق بنغازي وتيكا وقاريونس والمقرون وأجدابيا والعقيلة والبريقة، ورأس لانوف والسدرة وبن جواد وسرت والهيشة وتاورغاء ومصراتة بكل فروعها، وزليتن، وترهونة، وبني وليد، والخمس، والقرهبولي، وطرابلس بكل فروعها، والزاوية، وزوارة، وغريان، والجبل الغربي، وبكل تفرعاته، وغدامس، وغات، وهون، ومرزق، والكفرة، وجالو، وأوجلة، وأوباري، وبراك، وسبها، وحتى قرى الجنوب زرت معظمها ولي في كل هذه الأماكن ذكريات وناس أعرفهم، احترمهم ويحترمونني. إن هذا الوطن الغالي أخاف عليه هذه الأيام من الرياح التي تعصف به يمينًا وشمالاً، أخاف عليه من لا يخفون الله فيه وفي ناسه الطيبين، ولكني أقول: إن طيبة أهلي في كل هذه المناطق ستجعل المولى يقف معهم ويحميهم حتى من ظلمهم لأنفسهم بأن يهديهم إلي طريق الصواب. حفظ الله ليبيا، وحفظ الله أمتنا العربية، وأعز الله الإسلام الدين الحي الذي يسعى إلى التسامح ونبذ العنف وإشاعة المحبة بين الناس أجمعين.
المصدر
اسلامى,شرح,ادب,ابداع,منوعات,اسلامية,
الوطن الغالي,الوطن الغالي,الوطن الغالي,الوطن الغالي
from منتديات الإسلام اليوم http://ift.tt/1gFCcMR
via موقع الاسلام
0 التعليقات:
إرسال تعليق