كتاب مفصل الاعتقاد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
سئل شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية قدس الله روحه ما قولكم في مذهب السلف في الاعتقاد ومذهب غيرهم من المتأخرين؟ ما الصواب منهما؟ وما تنتحلونه أنتم من المذهبين؟ وفي أهل الحديث: هل هم أولى بالصواب من غيرهم؟ وهل هم المرادون بالفرقة الناجية؟ وهل حدث بعدهم علوم جهلوها وعلمها غيرهم؟.
فأجاب: -
الحمد لله. هذه المسائل بسطها يحتمل مجلدات لكن نشير إلى المهم منها والله الموفق. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115] . وقد شهد الله لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان بالإيمان. فعلم قطعا أنهم المراد بالآية الكريمة فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح:18].فحيث تقرر أن من اتبع غير سبيلهم ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم. فمن سبيلهم في الاعتقاد: [الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه] التي وصف بها نفسه وسمى بها نفسه في كتابه وتنزيله أو على لسان رسوله من غير زيادة عليها ولا نقص منها ولا تجاوز لها ولا تفسير لها ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها ولا تشبيه لها بصفات المخلوقين; ولا سمات المحدثين بل أمروها كما جاءت وردوا علمها إلى قائلها؛ ومعناها إلى المتكلم بها. وقال بعضهم - ويروى عن الشافعي: [آمنت بما جاء عن الله وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله]. وعلموا أن المتكلم بها صادق لا شك في صدقه فصدقوه ولم يعلموا حقيقة معناها فسكتوا عما لم يعلموه. وأخذ ذلك الآخر عن الأول ووصى بعضهم بعضا بحسن الاتباع والوقوف حيث وقف أولهم وحذروا من التجاوز لهم والعدول عن طريقتهم وبينوا لنا سبيلهم ومذهبهم ونرجو أن يجعلنا الله تعالى ممن اقتدى بهم في بيان ما بينوه؛ وسلوك الطريق الذي سلكوه. والدليل على أن مذهبهم ما ذكرناه: أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم نقل مصدق لها مؤمن بها قابل لها؛ غير مرتاب فيها؛ ولا شاك في صدق قائلها ولم يفسروا ما يتعلق بالصفات منها ولا تأولوه ولا شبهوه بصفات المخلوقين إذ لو فعلوا شيئا من ذلك لنقل عنهم ولم يجز أن يكتم بالكلية. إذ لا يجوز التواطؤ على كتمان ما يحتاج إلى نقله ومعرفته لجريان ذلك في القبح مجرى التواطؤ على نقل الكذب وفعل ما لا يحل. بل بلغ من مبالغتهم في السكوت عن هذا: أنهم كانوا إذا رأوا من يسأل عن المتشابه بالغوا في كفه تارة بالقول العنيف؛ وتارة بالضرب وتارة بالإعراض الدال على شدة الكراهة لمسألته. ولذلك لما بلغ عمر - رضي الله عنه - أن صبيغا يسأل عن المتشابه أعد له عراجين النخل فبينما عمر يخطب قام فسأله عن: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} [الذريات:1]{فَالْحَامِلاتِ وِقْراً} [الذريات:2]وما بعدها. فنزل عمر فقال: [لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك بالسيف [ثم أمر به فضرب ضربا شديدا وبعث به إلى البصرة وأمرهم أن لا يجالسوه فكان بها كالبعير الأجرب لا يأتي مجلسا إلا قالوا: [عزمة أمير المؤمنين] فتفرقوا عنه حتى تاب وحلف بالله ما بقي يجد مما كان في نفسه شيئا فأذن عمر في مجالسته فلما خرجت الخوارج أتي فقيل له: هذا وقتك فقال: لا نفعتني موعظة العبد الصالح. ولما سئل [مالك بن أنس]- رحمه الله تعالى - فقيل له: يا أبا عبد الله {الرحمن على العرش استوى} كيف استوى؟ فأطرق مالك وعلاه الرحضاء - يعني العرق - وانتظر القوم ما يجيء منه فيه. فرفع رأسه إلى السائل وقال: [الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وأحسبك رجل سوء]. وأمر به فأخرج. ومن أول الاستواء بالاستيلاء فقد أجاب بغير ما أجاب به مالك وسلك غير سبيله. وهذا الجواب من مالك - رحمه الله - في الاستواء شاف كاف في جميع الصفات. مثل النزول والمجيء واليد والوجه وغيرها. فيقال في مثل النزول: النزول معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. وهكذا يقال في سائر الصفات إذ هي بمثابة الاستواء الوارد به الكتاب والسنة. وثبت عن محمد بن الحسن - صاحب أبي حنيفة - أنه قال: [اتفق الفقهاء كلهم من الشرق والغرب: على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه فمن فسر شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة. فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا ولكن آمنوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا. فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة] انتهى. فانظر - رحمك الله - إلى هذا الإمام كيف حكى الإجماع في هذه المسألة ولا خير فيما خرج عن إجماعهم. ولو لزم التجسيم من السكوت عن تأويلها لفروا منه. وأولوا ذلك؛ فإنهم أعرف الأمة بما يجوز على الله وما يمتنع عليه. وثبت عن إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني أنه قال: [إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة يعرفون ربهم -تبارك وتعالى- بصفاته التي نطق بها كتابه وتنزيله وشهد له بها رسوله؛ على ما وردت به الأخبار الصحاح ونقله العدول الثقات. ولا يعتقدون تشبيها لصفاته بصفات خلقه ولا يكيفونها تكييف المشبه ولا يحرفون الكلم عن مواضعه تحريف المعتزلة والجهمية. وقد أعاذ الله [أهل السنة] من التحريف والتكييف ومن عليهم بالتفهيم والتعريف حتى سلكوا سبيل التوحيد والتنزيه وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه واكتفوا بنفي النقائص بقوله عز من قائل: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} وبقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4].وقال سعيد بن جبير: [ما لم يعرفه البدريون فليس من الدين]. وثبت عن الربيع بن سليمان أنه قال: سألت الشافعي - رحمه الله تعالى - عن صفات الله تعالى؟ فقال: [حرام على العقول أن تمثل الله تعالى؛ وعلى الأوهام أن تحده وعلى الظنون أن تقطع؛ وعلى النفوس أن تفكر؛ وعلى الضمائر أن تعمق وعلى الخواطر أن تحيط وعلى العقول أن تعقل إلا ما وصف به نفسه أو على لسان نبيه] عليه الصلاة والسلام. وثبت عن الحسن البصري أنه قال: [لقد تكلم مطرف على هذه الأعواد بكلام ما قيل قبله ولا يقال بعده. قالوا: وما هو يا أبا سعيد؟ قال: [الحمد لله الذي من الإيمان به: الجهل بغير ما وصف به نفسه]. وقال سحنون [من العلم بالله السكوت عن غير ما وصف به نفسه]. وثبت عن الحميدي أبي بكر عبد الله بن الزبير - أنه قال: [أصول السنة] - فذكر أشياء - ثم قال: وما نطق به القرآن والحديث مثل: {وَقَالَتِ اليهود يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64].ومثل: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: من الآية67] وما أشبه هذا من القرآن والحديث لا نزيد فيه ولا نفسره ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة ونقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طـه:5]ومن زعم غير هذا فهو جهمي. فمذهب السلف رضوان الله عليهم: إثبات الصفات وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية عنها. لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات وإثبات الذات إثبات وجود؛ لا إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات. وعلى هذا مضى السلف كلهم. ولو ذهبنا نذكر ما اطلعنا عليه من كلام السلف في ذلك لخرجنا عن المقصود في هذا الجواب. فمن كان قصده الحق وإظهار الصواب اكتفي بما قدمناه ومن كان قصده الجدال والقيل والقال والمكابرة لم يزده التطويل إلا خروجا عن سواء السبيل والله الموفق. وقد ثبت ما ادعيناه من مذهب السلف رضوان الله عليهم بما نقلناه جملة عنهم وتفصيلا واعتراف العلماء من أهل النقل كلهم بذلك. ولم أعلم عن أحد منهم خلافا في هذه المسألة بل لقد بلغني عمن ذهب إلى التأويل لهذه الآيات والأخبار من أكابرهم: الاعتراف بأن مذهب السلف فيها ما قلناه. ورأيته لبعض شيوخهم في كتابه قال: [اختلف أصحابنا في أخبار الصفات فمنهم من أمرها كما جاءت من غير تفسير ولا تأويل مع نفي التشبيه عنها. وهو مذهب السلف] فحصل الإجماع على صحة ما ذكرناه بقول المنازع والحمد لله. وما أحسن ما جاء عن [عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة] أنه قال: [عليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن الله عصمة. فإن السنة إنما جعلت ليستن بها ويقتصر عليها وإنما سنها من قد علم ما في خلافها من الزلل والخطإ والحمق والتعمق. فارض لنفسك بما رضوا به لأنفسهم. فإنهم عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا. ولهم كانوا على كشفها أقوى. وبتفصيلها لو كان فيها أحرى وإنهم لهم السابقون وقد بلغهم عن نبيهم ما يجري من الاختلاف بعد القرون الثلاثة؛ فلئن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه ولئن قلتم حدث حدث بعدهم فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم واختار ما نحته فكره على ما تلقوه عن نبيهم؛ وتلقاه عنهم من تبعهم بإحسان. ولقد وصفوا منه ما يكفي؛ وتكلموا منه بما يشفي. فمن دونهم مقصر؛ ومن فوقهم مفرط. لقد قصر دونهم أناس فجفوا؛ وطمح آخرون فغلوا؛ وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم].
فصل
وأما كونهم أعلم ممن بعدهم وأحكم وأن مخالفهم أحق بالجهل والحشو. فنبين ذلك بالقياس المعقول؛ من غير احتجاج بنفس الإيمان بالرسول كما قال الله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: من الآية53]؛ فأخبر: أنه سيريهم الآيات المرئية المشهودة حتى يتبين لهم أن القرآن حق. ثم قال: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: من الآية53] أي بإخبار الله ربك في القرآن وشهادته بذلك. فنقول: من المعلوم أن أهل الحديث يشاركون كل طائفة فيما يتحلون به من صفات الكمال ويمتازون عنهم بما ليس عندهم. فإن المنازع لهم لا بد أن يذكر فيما يخالفهم فيه طريقا أخرى؛ مثل المعقول والقياس والرأي والكلام والنظر والاستدلال والمحاجة والمجادلة والمكاشفة والمخاطبة والوجد والذوق ونحو ذلك. وكل هذه الطرق لأهل الحديث صفوتها وخلاصتها: فهم أكمل الناس عقلا؛ وأعدلهم قياسا وأصوبهم رأيا وأسدهم كلاما وأصحهم نظرا وأهداهم استدلالا وأقومهم جدلا وأتمهم فراسة وأصدقهم إلهاما وأحدهم بصرا ومكاشفة وأصوبهم سمعا ومخاطبة وأعظمهم وأحسنهم وجدا وذوقا. وهذا هو للمسلمين بالنسبة إلى سائر الأمم ولأهل السنة والحديث بالنسبة إلى سائر الملل. فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحد وأسد عقلا وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم كذلك متمتعين. وذلك لأن اعتقاد الحق الثابت يقوي الإدراك ويصححه قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} [محمد: من الآية17] وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء: من الآية66] {وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً} [النساء:67] {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء: 68].وهذا يعلم تارة بموارد النزاع بينهم وبين غيرهم فلا تجد مسألة خولفوا فيها إلا وقد تبين أن الحق معهم. وتارة بإقرار مخالفيهم ورجوعهم إليهم دون رجوعهم إلى غيرهم أو بشهادتهم على مخالفيهم بالضلال والجهل. وتارة بشهادة المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض. وتارة بأن كل طائفة تعتصم بهم فيما خالفت فيه الأخرى وتشهد بالضلال على كل من خالفها أعظم مما تشهد به عليهم. فأما شهادة المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض: فهذا أمر ظاهر معلوم بالحس والتواتر لكل من سمع كلام المسلمين لا تجد في الأمة عظم أحد تعظيما أعظم مما عظموا به ولا تجد غيرهم يعظم إلا بقدر ما وافقهم فيه كما لا ينقص إلا بقدر ما خالفهم. حتى إنك تجد المخالفين لهم كلهم وقت الحقيقة يقر بذلك كما قال الإمام أحمد: [آية ما بيننا وبينهم يوم الجنائز] فإن الحياة بسبب اشتراك الناس في المعاش يعظم الرجل طائفته فأما وقت الموت فلا بد من الاعتراف بالحق من عموم الخلق. ولهذا لم يعرف في الإسلام مثل جنازته: مسح المتوكل موضع الصلاة عليه فوجد ألف ألف وستمائة ألف؛ سوى من صلى في الخانات والبيوت وأسلم يومئذ من اليهود والنصارى عشرون ألفا. وهو إنما نبل عند الأمة باتباع الحديث والسنة. وكذلك الشافعي وإسحاق وغيرهما إنما نبلوا في الإسلام باتباع أهل الحديث والسنة. وكذلك البخاري وأمثاله إنما نبلوا بذلك وكذلك مالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وغيرهم إنما نبلوا في عموم الأمة وقبل قولهم لما وافقوا فيه الحديث والسنة وما تكلم فيمن تكلم فيه منهم إلا بسبب المواضع التي لم يتفق له متابعتها من الحديث والسنة إما لعدم بلاغها إياه أو لاعتقاده ضعف دلالتها أو رجحان غيرها عليها. وكذلك المسائل الاعتقادية الخبرية؛ لم ينبل أحد من الطوائف ورءوسهم عند الأمة إلا بما معه من الإثبات والسنة فالمعتزلة أولا - وهم فرسان الكلام - إنما يحمدون ويعظمون عند أتباعهم وعند من يغضي عن مساوئهم لأجل محاسنهم عند المسلمين بما وافقوا فيه مذهب أهل الإثبات والسنة والحديث وردهم على الرافضة بعض ما خرجوا فيه عن السنة والحديث: من إمامة الخلفاء وعدالة الصحابة وقبول الأخبار وتحريف الكلم عن مواضعه والغلو في على ونحو ذلك. وكذلك الشيعة المتقدمون كانوا يرجحون على المعتزلة بما خالفوهم فيه من إثبات الصفات والقدر والشفاعة ونحو ذلك وكذلك كانوا يستحمدون بما خالفوا فيه الخوارج من تكفير على وعثمان وغيرهما وما كفروا به المسلمين من الذنوب ويستحمدون بما خالفوا فيه المرجئة من إدخال الواجبات في الإيمان. ولهذا قالوا بالمنزلة وإن لم يهتدوا إلى السنة المحضة. وكذلك متكلمة أهل الإثبات مثل الكلابية والكرامية والأشعرية إنما قبلوا واتبعوا واستحمدوا إلى عموم الأمة بما أثبتوه من أصول الإيمان من إثبات الصانع وصفاته وإثبات النبوة والرد على الكفار من المشركين وأهل الكتاب وبيان تناقض حججهم وكذلك استحمدوا بما ردوه على الجهمية والمعتزلة؛ والرافضة والقدرية من أنواع المقالات التي يخالفون فيها أهل السنة والجماعة. فحسناتهم نوعان: إما موافقة أهل السنة والحديث. وإما الرد على من خالف السنة والحديث ببيان تناقض حججهم. ولم يتبع أحد مذهب الأشعري ونحوه إلا لأحد هذين الوصفين أو كليهما. وكل من أحبه وانتصر له من المسلمين وعلمائهم فإنما يحبه وينتصر له بذلك. فالمصنف في مناقبه الدافع للطعن واللعن عنه - كالبيهقي؛ والقشيري أبي القاسم؛ وابن عساكر الدمشقي - إنما يحتجون لذلك بما يقوله من أقوال أهل السنة والحديث أو بما رده من أقوال مخالفيهم لا يحتجون له عند الأمة وعلمائها وأمرائها إلا بهذين الوصفين ولولا أنه كان من أقرب بني جنسه إلى ذلك لألحقوه بطبقته الذين لم يكونوا كذلك كشيخه الأول [أبي على]; وولده [أبي هاشم]. لكن كان له من موافقة مذهب السنة والحديث في الصفات؛ والقدر والإمامة؛ والفضائل والشفاعة والحوض والصراط والميزان وله من الردود على المعتزلة والقدرية؛ والرافضة والجهمية وبيان تناقضهم: ما أوجب أن يمتاز بذلك عن أولئك؛ ويعرف له حقه وقدره {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق: من الآية3] وبما وافق فيه السنة والحديث صار له من القبول والأتباع ما صار. لكن الموافقة التي فيها قهر المخالف وإظهار فساد قوله: هي من جنس المجاهد المنتصر. فالراد على أهل البدع مجاهد حتى كان [يحيى بن يحيى] يقول: [الذب عن السنة أفضل من الجهاد] والمجاهد قد يكون عدلا في سياسته وقد لا يكون وقد يكون فيه فجور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم) ولهذا مضت السنة بأن يغزى مع كل أمير برا كان أو فاجرا والجهاد عمل مشكور لصاحبه في الظاهر لا محالة وهو مع النية الحسنة مشكور باطنا وظاهرا ووجه شكره: نصره للسنة والدين فهكذا المنتصر للإسلام والسنة يشكر على ذلك من هذا الوجه. فحمد الرجال عند الله ورسوله وعباده المؤمنين بحسب ما وافقوا فيه دين الله وسنة رسوله وشرعه من جميع الأصناف؛ إذ الحمد إنما يكون على الحسنات. والحسنات: هي ما وافق طاعة الله ورسوله من التصديق بخبر الله والطاعة لأمره. وهذا هو السنة. فالخير كله - باتفاق الأمة - هو فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وكذلك ما يذم من يذم من المنحرفين عن السنة والشريعة وطاعة الله ورسوله إلا بمخالفة ذلك. ومن تكلم فيه من العلماء والأمراء وغيرهم إنما تكلم فيه أهل الإيمان بمخالفته السنة والشريعة. وبهذا ذم السلف والأئمة أهل الكلام والمتكلمين الصفاتية كابن كرام؛ وابن كلاب والأشعري. وما تكلم فيه من تكلم من أعيان الأمة وأئمتها المقبولين فيها من جميع طوائف الفقهاء؛ وأهل الحديث والصوفية إلا بما يقولون إنهم خالفوا فيه السنة والحديث لخفائه عليهم أو إعراضهم عنه أو لاقتضاء أصل قياس - مهدوه - رد ذلك كما يقع نحو ذلك في المسائل العلمية. فإن مخالفة المسلم الصحيح الإيمان النص إنما يكون لعدم علمه به أو لاعتقاده صحة ما عارضه لكن هو فيما ظهر من السنة وعظم أمره يقع بتفريط من المخالف وعدوان فيستحق من الذم ما لا يستحقه في النص الخفي وكذلك فيما يوقع الفرقة والاختلاف؛ يعظم فيه أمر المخالفة للسنة.
ولهذا اهتم كثير من الملوك والعلماء بأمر الإسلام وجهاد أعدائه حتى صاروا يلعنون الرافضة والجهمية وغيرهم على المنابر؛ حتى لعنوا كل طائفة رأوا فيها بدعة. فلعنوا الكلابية والأشعرية: كما كان في مملكة الأمير [محمود بن سبكتكين] وفي دولة السلاجقة ابتداء وكذلك الخليفة القادر؛ ربما اهتم بذلك واستشار المعتزلة من الفقهاء ورفعوا إليه أمر القاضي [أبي بكر] ونحوه وهموا به حتى كان يختفي وإنما تستر بمذهب الإمام أحمد وموافقته ثم ولى النظام وسعوا في رفع اللعنة واستفتوا من استفتوه من فقهاء العراق كالدامغاني الحنفي وأبي إسحاق الشيرازي وفتواهما حجة على من بخراسان من الحنفية والشافعية. وقد قيل: إن أبا إسحاق استعفي من ذلك فألزموه وأفتوا بأنه لا يجوز لعنتهم ويعزر من يلعنهم وعلل الدامغاني: بأنهم طائفة من المسلمين. وعلل أبو إسحاق - مع ذلك -: بأن لهم ذبا وردا على أهل البدع المخالفين للسنة فلم يمكن المفتي أن يعلل رفع الذم إلا بموافقة السنة والحديث. وكذلك رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد فتوى طويلة فيها أشياء حسنة قد سئل بها عن مسائل متعددة قال فيها: - ولا يجوز شغل المساجد بالغناء والرقص ومخالطة المردان ويعزر فاعله تعزيرًا بليغًا رادعًا وأما لبس الحلق والدمالج والسلاسل والأغلال والتختم بالحديد والنحاس فبدعة وشهرة. وشر الأمور محدثاتها وهي لهم في الدنيا وهي لباس أهل النار وهي لهم في الآخرة إن ماتوا على ذلك. ولا يجوز السجود لغير الله من الأحياء والأموات ولا تقبيل القبور ويعزر فاعله. ومن لعن أحدا من المسلمين عزر على ذلك تعزيرا بليغا. والمؤمن لا يكون لعانا وما أقر به من عود اللعنة عليه قال: ولا تحل الصلاة عند القبور ولا المشي عليها من الرجال والنساء ولا تعمل مساجد للصلاة فإنه (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). قال: وأما لعن العلماء لأئمة الأشعرية فمن لعنهم عزر. وعادت اللعنة عليه فمن لعن من ليس أهلا للعنة وقعت اللعنة عليه. والعلماء أنصار فروع الدين والأشعرية أنصار أصول الدين. قال: وأما دخولهم النيران فمن لا يتمسك بالقرآن فإنه فتنة لهم ومضلة لمن يراهم كما يفتتن الناس بما يظهر على يدي الدجال فإنه من ظهر على يديه خارق فإنه يوزن بميزان الشرع فإن كان على الاستقامة كان ما ظهر على يديه كرامة ومن لم يكن على الاستقامة كان ذلك فتنة كما يظهر على يدي الدجال من إحياء الميت وما يظهر من جنته وناره. فإن الله يضل من لا خلاق له بما يظهر على يدي هؤلاء. وأما من تمسك بالشرع الشريف: فإنه لو رأى من هؤلاء من يطير في الهواء؛ أو يمشي على الماء؛ فإنه يعلم أن ذلك فتنة للعباد. انتهى. فالفقيه أبو محمد أيضا إنما منع اللعن وأمر بتعزير اللاعن لأجل ما نصروه من [أصول الدين] وهو ما ذكرناه من موافقة القرآن والسنة والحديث والرد على من خالف القرآن والسنة والحديث. ولهذا كان الشيخ أبو إسحاق يقول: [إنما نفقت الأشعرية عند الناس بانتسابهم إلى الحنابلة] وهذا ظاهر عليه وعلى أئمة أصحابه في كتبهم ومصنفاتهم قبل وقوع الفتنة القشيرية ببغداد ولهذا قال أبو القاسم بن عساكر في مناقبه: [ما زالت الحنابلة والأشاعرة في قديم الدهر متفقين غير مفترقين حتى حدثت فتنة] ابن القشيري ثم بعد حدوث الفتنة وقبلها لا تجد من يمدح الأشعري بمدحة؛ إلا إذا وافق السنة والحديث ولا يذمه من يذمه إلا بمخالفة السنة والحديث. وهذا إجماع من جميع هذه الطوائف على تعظيم السنة والحديث واتفاق شهاداتهم على أن الحق في ذلك. ولهذا تجد أعظمهم موافقة لأئمة السنة والحديث أعظم عند جميعهم ممن هو دونه. فالأشعري نفسه لما كان أقرب إلى قول الإمام أحمد ومن قبله من أئمة السنة كان عندهم أعظم من أتباعه والقاضي [أبو بكر بن الباقلاني] لما كان أقربهم إلى ذلك كان أعظم عندهم من غيره. وأما مثل الأستاذ أبي المعالي؛ وأبي حامد؛ ونحوهما ممن خالفوا أصوله في مواضع فلا تجدهم يعظمون إلا بما وافقوا فيه السنة والحديث وأكثر ذلك تقلدوه من مذهب الشافعي في الفقه الموافق للسنة والحديث ومما ذكروه في الأصول مما يوافق السنة والحديث وما ردوه مما يخالف السنة والحديث. وبهذا القدر ينتحلون السنة وينحلونها وإلا لم يصح ذلك. وكانت الرافضة والقرامطة - علماؤها وأمراؤها - قد استظهرت في أوائل الدولة السلجوقية حتى غلبت على الشام والعراق وأخرجت الخليفة القائم ببغداد إلى تكريت وحبسوه بها في فتنة البساسيري المشهورة فجاءت بعد ذلك السلجوقية حتى هزموهم وفتحوا الشام والعراق وقهروهم بخراسان وحجروهم بمصر. وكان في وقتهم من الوزراء مثل: [نظام الملك] ومن العلماء مثل: [أبي المعالي الجويني] فصاروا بما يقيمونه من السنة ويردونه من بدعة هؤلاء ونحوهم لهم من المكانة عند الأمة بحسب ذلك. وكذلك المتأخرون من أصحاب مالك الذين وافقوه: [كأبي الوليد الباجي] والقاضي [أبي بكر بن العربي] ونحوهما لا يعظمون إلا بموافقة السنة والحديث وأما الأكابر: مثل [ابن حبيب] و[ابن سحنون] ونحوهما؛ فلون آخر. وكذلك أبو محمد بن حزم فيما صنفه من الملل والنحل إنما يستحمد بموافقة السنة والحديث مثل ما ذكره في مسائل [القدر] و [الإرجاء] ونحو ذلك بخلاف ما انفرد به من قوله في التفضيل بين الصحابة. وكذلك ما ذكره في [باب الصفات] فإنه يستحمد فيه بموافقة أهل السنة والحديث لكونه يثبت في الأحاديث الصحيحة ويعظم السلف وأئمة الحديث ويقول إنه موافق للإمام أحمد في مسألة القرآن وغيرها ولا ريب أنه موافق له ولهم في بعض ذلك. لكن الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من الأئمة في القرآن والصفات وإن كان [أبو محمد بن حزم] في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره وأعلم بالحديث وأكثر تعظيما له ولأهله من غيره لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك فوافق هؤلاء في اللفظ وهؤلاء في المعنى. وبمثل هذا صار يذمه من يذمه من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث باتباعه لظاهر لا باطن له كما نفي المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق وكما نفي خرق العادات ونحوه من عبادات القلوب. مضموما إلى ما في كلامه من الوقيعة في الأكابر والإسراف في نفي المعاني ودعوى متابعة الظواهر. وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابر؛ ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال؛ والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره. فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح. وله من التمييز بين الصحيح والضعيف والمعرفة بأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء. وتعظيم أئمة الأمة وعوامها للسنة والحديث وأهله في الأصول والفروع من الأقوال والأعمال: أكثر من أن يذكر هنا. وتجد الإسلام والإيمان كلما ظهر وقوي كانت السنة وأهلها أظهر وأقوى وإن ظهر شيء من الكفر والنفاق ظهرت البدع بحسب ذلك مثل: دولة المهدي والرشيد ونحوهما ممن كان يعظم الإسلام والإيمان ويغزو أعداءه من الكفار والمنافقين. كان أهل السنة في تلك الأيام أقوى وأكثر وأهل البدع أذل وأقل. فإن المهدي قتل من المنافقين الزنادقة من لا يحصي عدده إلا الله , والرشيد كان كثير الغزو والحج. وذلك أنه لما انتشرت الدولة العباسية وكان في أنصارها من أهل المشرق والأعاجم طوائف من الذين نعتهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (الفتنة هاهنا); ظهر حينئذ كثير من البدع وعربت أيضا إذ ذاك طائفة من كتب الأعاجم - من المجوس الفرس والصابئين الروم والمشركين الهند - وكان المهدي من خيار خلفاء بني العباس وأحسنهم إيمانا وعدلا وجودا فصار يتتبع المنافقين الزنادقة كذلك. وكان خلفاء بني العباس أحسن تعاهدا للصلوات في أوقاتها من بني أمية فإن أولئك كانوا كثير الإضاعة لمواقيت الصلاة كما جاءت فيهم الأحاديث: (سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة). لكن كانت البدع في القرون الثلاثة الفاضلة مقموعة وكانت الشريعة أعز وأظهر وكان القيام بجهاد أعداء الدين من الكافرين والمنافقين أعظم. وفي دولة [أبي العباس المأمون] ظهر [الخرمية] ونحوهم من المنافقين وعرب من كتب الأوائل المجلوبة من بلاد الروم ما انتشر بسببه مقالات الصابئين وراسل ملوك المشركين من الهند ونحوهم حتى صار بينه وبينهم مودة.
فلما ظهر ما ظهر من الكفر والنفاق في المسلمين وقوي ما قوي من حال المشركين وأهل الكتاب؛ كان من أثر ذلك: ما ظهر من استيلاء الجهمية؛ والرافضة؛ وغيرهم من أهل الضلال وتقريب الصابئة ونحوهم من المتفلسفة. وذلك بنوع رأي يحسبه صاحبه عقلا وعدلا وإنما هو جهل وظلم إذ التسوية بين المؤمن والمنافق؛ والمسلم والكافر أعظم الظلم وطلب الهدى عند أهل الضلال أعظم الجهل فتولد من ذلك محنة الجهمية حتى امتحنت الأمة بنفي الصفات والتكذيب بكلام الله ورؤيته وجرى من محنة الإمام أحمد وغيره ما جرى مما يطول وصفه. وكان في أيام [المتوكل] قد عز الإسلام حتى ألزم أهل الذمة بالشروط العمرية؛ وألزموا الصغار فعزت السنة والجماعة وقمعت الجهمية والرافضة ونحوهم. وكذلك في أيام [المعتضد] والمهدي والقادر وغيرهم من الخلفاء الذين كانوا أحمد سيرة وأحسن طريقة من غيرهم. وكان الإسلام في زمنهم أعز وكانت السنة بحسب ذلك. وفي دولة [بني بويه] ونحوهم: الأمر بالعكس فإنهم كان فيهم أصناف المذاهب المذمومة. قوم منهم زنادقة وفيهم قرامطة كثيرة ومتفلسفة ومعتزلة ورافضة وهذه الأشياء كثيرة فيهم غالبة عليهم. فحصل في أهل الإسلام والسنة في أيامهم من الوهن ما لم يعرف حتى استولى النصارى على ثغور الإسلام وانتشرت القرامطة في أرض مصر والمغرب والمشرق وغير ذلك وجرت حوادث كثيرة. ولما كانت مملكة محمود بن سبكتكين من أحسن ممالك بني جنسه: كان الإسلام والسنة في مملكته أعز فإنه غزا المشركين من أهل الهند ونشر من العدل ما لم ينشره مثله. فكانت السنة في أيامه ظاهرة والبدع في أيامه مقموعة. وكذلك السلطان [نور الدين محمود] الذي كان بالشام؛ عز أهل الإسلام والسنة في زمنه وذل الكفار وأهل البدع ممن كان بالشام ومصر وغيرهما من الرافضة والجهمية ونحوهم. وكذلك ما كان في زمنه من خلافة بني العباس ووزارة ابن هبيرة لهم فإنه كان من أمثل وزراء الإسلام. ولهذا كان له من العناية بالإسلام والحديث ما ليس لغيره. وما يوجد من إقرار أئمة الكلام والفلسفة وشهادتهم على أنفسهم وعلى بني جنسهم بالضلال ومن شهادة أئمة الكلام والفلسفة بعضهم على بعض كذلك؛ فأكثر من أن يحتمله هذا الموضع وكذلك ما يوجد من رجوع أئمتهم إلى مذهب عموم أهل السنة وعجائزهم كثير وأئمة السنة والحديث لا يرجع منهم أحد لأن [الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد] وكذلك ما يوجد من شهادتهم لأهل الحديث بالسلامة والخلاص من أنواع الضلال وهم لا يشهدون لأهل البدع إلا بالضلال. وهذا باب واسع كما قدمناه. وجميع الطوائف المتقابلة من أهل الأهواء تشهد لهم بأنهم أصلح من الأخرىن وأقرب إلى الحق فنجد كلام أهل النحل فيهم وحالهم معهم بمنزلة كلام أهل الملل مع المسلمين وحالهم معهم. وإذا قابلنا بين الطائفتين - أهل الحديث وأهل الكلام - فالذي يعيب بعض أهل الحديث وأهل الجماعة بحشو القول: إنما يعيبهم بقلة المعرفة؛ أو بقلة الفهم. أما الأول: فبأن يحتجوا بأحاديث ضعيفة أو موضوعة؛ أو بآثار لا تصلح للاحتجاج. وأما الثاني: فبأن لا يفهموا معنى الأحاديث الصحيحة بل قد يقولون القولين المتناقضين ولا يهتدون للخروج من ذلك. والأمر راجع إلى شيئين: - إما زيادة أقوال غير مفيدة يظن أنها مفيدة كالأحاديث الموضوعة وإما أقوال مفيدة لكنهم لا يفهمونها إذ كان اتباع الحديث يحتاج أولا إلى صحة الحديث. وثانيا إلى فهم معناه كاتباع القرآن. فالخلل يدخل عليهم من ترك إحدى المقدمتين. ومن عابهم من الناس فإنما يعيبهم بهذا. ولا ريب أن هذا موجود في بعضهم يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل [الأصول والفروع] وبآثار مفتعلة وحكايات غير صحيحة ويذكرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون معناه وربما تأولوه على غير تأويله؛ ووضعوه على غير موضعه. ثم إنهم بهذا المنقول الضعيف والمعقول السخيف قد يكفرون ويضللون ويبدعون أقواما من أعيان الأمة ويجهلونهم ففي بعضهم من التفريط في الحق والتعدي على الخلق ما قد يكون بعضه خطأ مغفورا وقد يكون منكرا من القول وزورا وقد يكون من البدع والضلالات التي توجب غليظ العقوبات فهذا لا ينكره إلا جاهل أو ظالم وقد رأيت من هذا عجائب. لكن هم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل ولا ريب أن في كثير من المسلمين من الظلم والجهل والبدع والفجور ما لا يعلمه إلا من أحاط بكل شيء علما لكن كل شر يكون في بعض المسلمين فهو في غيرهم أكثر وكل خير يكون في غيرهم فهو فيهم أعلى وأعظم وهكذا أهل الحديث بالنسبة إلى غيرهم.
وبيان ذلك: أن ما ذكر من فضول الكلام الذي لا يفيد مع اعتقاد أنه طريق إلى التصور والتصديق - هو في أهل الكلام والمنطق أضعاف أضعاف أضعاف ما هو في أهل الحديث؛ فبإزاء احتجاج أولئك بالحديث الضعيف احتجاج هؤلاء بالحدود والأقيسة الكثيرة العقيمة؛ التي لا تفيد معرفة؛ بل تفيد جهلا وضلالا وبإزاء تكلم أولئك بأحاديث لا يفهمون معناها تكلف هؤلاء من القول بغير علم ما هو أعظم من ذلك وأكثر وما أحسن قول الإمام أحمد: [ضعيف الحديث خير من رأي فلان].
ثم لأهل الحديث من المزية: أن ما يقولونه من الكلام الذي لا يفهمه بعضهم هو كلام في نفسه حق وقد آمنوا بذلك وأما المتكلمة: فيتكلفون من القول ما لا يفهمونه ولا يعلمون أنه حق وأهل الحديث لا يستدلون بحديث ضعيف في نقض أصل عظيم من أصول الشريعة بل إما في تأييده؛ وإما في فرع من الفروع وأولئك يحتجون بالحدود والمقاييس الفاسدة في نقض الأصول الحقة الثابتة.
إذا عرف هذا فقد قال الله تعالى عن أتباع الأئمة من أهل الملل المخالفين للرسل {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر: من الآية83] وقال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66] إلى قوله: {وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب: من الآية68] ومثل هذا في القرآن كثير؛ وإذا كانت سعادة الدنيا والآخرة هي باتباع المرسلين، فمن المعلوم أن أحق الناس بذلك هم أعلمهم بآثار المرسلين وأتبعهم؛ لذلك فالعالمون بأقوالهم وأفعالهم المتبعون لها هم أهل السعادة في كل زمان ومكان، وهم الطائفة الناجية من أهل كل ملة، وهم أهل السنة والحديث من هذه الأمة، فإنهم يشاركون سائر الأمة فيما عندهم من أمور الرسالة؛ ويمتازون عنهم بما اختصوا به من العلم الموروث عن الرسول مما يجهله غيرهم أو يكذب به والرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ عليهم البلاغ المبين، وقد بلغوا البلاغ المبين وخاتم الرسل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنزل الله كتابه مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه فهو الأمين على جميع الكتب؛ وقد بلغ أبين البلاغ وأتمه وأكمله، وكان أنصح الخلق لعباد الله، وكان بالمؤمنين رؤوفا رحيمًا بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين فأسعد الخلق وأعظمهم نعيما وأعلاهم درجة أعظمهم اتباعا وموافقة له علما وعملاً.
وأما غير اتباعه من أهل الكلام؛ فالكلام في أقيستهم التي هي حججهم وبراهينهم على معارفهم وعلومهم وهذا يدخل فيه كل من خالف شيئا من السنة والحديث من المتكلمين والفلاسفة فالكلام في هذا المقام واسع لا ينضبط هنا، لكن المعلوم من حيث الجملة أن الفلاسفة والمتكلمين من أعظم بني آدم حشوا وقولا للباطل وتكذيبا للحق في مسائلهم ودلائلهم لا يكاد ـ والله أعلم ـ تخلو لهم مسألة واحدة عن ذلك وأذكر أني قلت مرة لبعض من كان ينتصر لهم من المشغوفين بهم وأنا إذ ذاك صغير قريب العهد من الإحتلام كل ما يقوله هؤلاء ففيه باطل إما في الدلائل وإما في المسائل، إما أن يقولوا مسألة تكون حقا لكن يقيمون عليها أدلة ضعيفة؛ وإما
أن تكون المسألة باطلاً فأخذ ذلك المشغوف بهم يعظمها؛ وذكر مسألة التوحيد. فقلت التوحيد حق لكن اذكر ما شئت من أدلتهم التي تعرفها حتى أذكر لك ما فيه فذكر بعضها بحروفه حتى فهم الغلط وذهب إلى ابنه وكان أيضا من المتعصبين لهم فذكر ذلك له قال فأخذ يعظم ذلك علي فقلت أنا لا أشك في التوحيد ولكن أشك في هذا الدليل المعين ويدلك على ذلك أمور أحدها أنك تجدهم أعظم الناس شكا واضطرابا وأضعف الناس علما ويقينا وهذا أمر يجدونه في أنفسهم ويشهده الناس منهم وشواهد ذلك أعظم من أن تذكر هنا وإنما فضيلة أحدهم باقتداره على الاعتراض والقدح والجدل ومن المعلوم أن الاعتراض والقدح ليس بعلم ولا فيه منفعة وأحسن أحوال صاحبه أن يكون بمنزلة العامي وإنما العلم في جواب السؤال ولهذا تجد غالب حججهم تتكافأ إذ كل منهم يقدح في أدلة الآخر وقد قيل إن الأشعري مع أنه من أقربهم إلى السنة والحديث وأعلمهم بذلك صنف في آخر عمره كتابا في تكافؤ الأدلة يعني أدلة علم الكلام فإن ذلك هو صناعته التي يحسن الكلام فيها وما زال أئمتهم يخبرون بعدم الأدلة والهدى في طريقهم كما ذكرناه عن أبي حامد وغيره حتى قال أبو حامد الغزالي أكثر الناس شكا عند الموت أهل الكلام وهذا أبو عبدالله الرازي من أعظم الناس في هذا الباب باب الحيرة والشك والاضطراب لكن هو مسرف في هذا الباب بحيث له نهمة في التشكيك دون التحقيق بخلاف غيره فإنه يحقق شيئا ويثبت على نوع من الحق لكن بعض الناس قد يثبت على باطل محض بل لا بد فيه من نوع من الحق وكان من فضلاء المتأخرين وأبرعهم في الفلسفة والكلام ابن واصل الحموي كان يقول أستلقي على قفاي وأضع الملحفة على نصف وجهي ثم أذكر المقالات وحجج هؤلاء وهؤلاء واعتراض هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي شيء ولهذا أنشد الخطابي حجج تهافت كالزجاج تخالها حقا وكل كاسر مكسور فإذا كانت هذه حال حججهم فأي لغو باطل وحشو يكون أعظم من هذا وكيف يليق بمثل هؤلاء أن ينسبوا إلى الحشو أهل الحديث والسنة الذين هم أعظم الناس علما ويقينا وطمأنينة وسكينة وهم الذين يعلمون ويعلمون أنهم يعلمون وهم بالحق يوقنون لا يشكون ولا يمترون فأما ما أوتيه علماء أهل الحديث وخواصهم من اليقين والمعرفة والهدى فأمر يجل عن الوصف ولكن عند عوامهم من اليقين والعلم والنافع ما لم يحصل منه شيء لأئمة المتفلسفة المتكلمين وهذا ظاهر مشهود لكل أحد غاية ما يقوله أحدهم أنهم جزموا بغير دليل وصمموا بغير حجة وإنما معهم التقليد وهذا القدر قد يكون في كثير من العامة لكن جزم العلم غير جزم الهوى فالجازم بغير علم يجد من نفسه أنه غير عالم بما جزم به، والجازم بعلم يجد من نفسه أنه عالم اذ كون الإنسان عالما وغير عالم مثل كونه سامعًا ومبصرًا وغير سامع ومبصر فهو يعلم من نفسه ذلك مثل ما يعلم من نفسه كونه محبًا ومبغضًا ومريدًا وكارهًا ومسرورًا ومحزونًا ومنعمًا ومعذبًا وغير ذلك ومن شك في كونه يعلم مع كونه يعلم فهو بمنزلة من جزم بأنه علم وهو لا يعلم وذلك نظير من شك في كونه سمع ورأى أو جزم بأنه سمع ورأى ما لم يسمعه ويراه والغلط أو الكذب يعرض للإنسان في كل واحد من طرفي النفي والإثبات لكن هذا الغلط أو الكذب العارض لا يمنع أن يكون الإنسان جازمًا بما لا يشك فيه من ذلك كما يجزم بما يجده من الطعوم والأراييح وإن كان قد يعرض له من الانحراف ما يجد به الحلو مرا فالأسباب العارضة لغلط الحس والباطن أو الظاهر والعقل بمنزلة المرض العارض لحركة البدن والنفس والأصل هو الصحة في الإدراك وفي الحركة فإن الله خلق عباده على الفطرة وهذه الأمور يعلم الغلط فيها بأسبابها الخاصة كالمرة الصفراء العارضة للطعم وكالحول في العين ونحو ذلك وإلا فمن حاسب نفسه على ما يجزم به وجد أكثر الناس الذين يجزمون بما لا يجزم به إنما جزمهم لنوع من الهوى كما قال تعالى وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم وقال ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ولهذا تجد اليهود يصممون ويصرون على باطلهم لما في نفوسهم من الكبر والحسد والقسوة وغير ذلك من الأهواء وأما النصارى فأعظم ضلالا منهم وإن كانوا في العادة والأخلاق أقل منهم شرا فليسوا جازمين بغالب ضلالهم بل عند الاعتبار تجد من ترك الهوى من الطائفتين ونظر نوع نظر تبين له الإسلام حقا والمقصود هنا أن معرفة الإنسان بكونه يعلم أو لا يعلم مرجعه إلى وجود نفسه عالمة ولهذا لا نحتج على منكر العلم إلا بوجودنا نفوسنا عالمة كما احتجوا على منكري الأخبار المتواترة بأنا نجد نفوسنا عالمة بذلك وجازمة به كعلمنا وجزمنا بما أحسسناه وجعل المحققون وجود العلم بخبر من الأخبار هو الضابط في حصول التواتر إذ لم يحدوه بعدد ولا صفة بل متى حصل العلم كان هو المعتبر والإنسان يجد نفسه عالمة وهذا حق فإنه لا يجوز أن يستدل الإنسان على كونه عالما بدليل فإن علمه بمقدمات ذلك الدليل يحتاج إلى أن يجد نفسه عالمة بها فلو احتاج علمه بكونه عالما إلى دليل أفضى إلى الدور أو التسلسل ولهذا لا يحس الإنسان بوجود العلم عند وجود سببه إن كان بديهيا أو إن كان نظريا إذا علم المقدمتين وبهذا استدل على منكري إفادة النظر العلم وإن كان في هذه المسألة تفصيل ليس هذا موضعه فالغرض أن من نظر في دليل يفيد العلم وجد نفسه عالمة عند علمه بذلك الدليل كما يجد نفسه سامعة رائية عند الاستماع للصوت والترائي للشمس أو الهلال أو غير ذلك والعلم يحصل في النفس كما تحصل سائر الإدراكات والحركات بما يجعله الله من الأسباب وعامة ذلك بملائكة الله تعالى فإن الله سبحانه ينزل بها على قلوب عباده من العلم والقوة وغير ذلك ما يشاء ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لحسان اللهم أيده بروح القدس) وقال تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: من الآية22] وقال: ـ صلى الله عليه وسلم ـ (من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده) وقال عبدالله بن مسعود: كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر وقال ابن مسعود أيضًا أن للملك لمة وللشيطان لمة فلمة الملك إيعاد بالخير تصديق بالحق ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق وهذا الكلام الذي قاله ابن مسعود هو محفوظ عنه وربما رفعه بعضهم إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو كلام جامع لأصول ما يكون من العبد من علم وعمل من شعور وإرادة وذلك أن العبد له قوة الشعور والإحساس والإدراك وقوة الإرادة والحركة وإحداهما أصل الثانية مستلزمة لها والثانية مستلزمة للأولى ومكملة لها فهو بالأولى يصدق بالحق ويكذب بالباطل وبالثانية يحب النافع الملائم له ويبغض الضار المنافي له والله سبحانه خلق عباده على الفطرة التي فيها معرفة الحق والتصديق به ومعرفة الباطل والتكذيب به ومعرفة النافع الملائم والمحبة له ومعرفة الضار المنافي والبغض له بالفطرة فما كان حقا موجودا صدقت به الفطرة وما كان حقا نافعا عرفته الفطرة فأحبته واطمأنت إليه وذلك هو المعروف وما كان باطلا معدوما كذبت به الفطرة فأبغضته الفطرة فانكرته قال تعالى يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر والإنسان كما سماه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (حيث قال أصدق الأسماء حارث وهمام) فهو دائما يهم ويعمل لكنه لا يعمل إلا ما يرجو نفعه أو دفع مضرته ولكن قد يكون ذلك الرجاء مبينا على اعتقاد باطل إما في نفس المقصود فلا يكون نافعا ولا ضارا وإما في الوسيلة فلا تكون طريقا إليه وهذا جهل وقد يعلم أن هذا الشيء يضره ويفعله ويعلم أنه ينفعه ويتركه لأن ذلك العلم عارضه ما في نفسه من طلب لذة أخرى او دفع ألم آخر جاهلا ظالما حيث قدم هذا على ذاك ولهذا قال أبو العالية سألت أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: من الآية17] فقالوا كل من عصى الله فهو جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب وإذا كان الإنسان لا يتحرك إلا راجيا وإن كان راهبا خائفا لم يسع إلا في النجاة ولم يهرب إلا من الخوف فالرجاء لا يكون إلا بما يلقى في نفسه من الإيعاد بالخير الذي هو طلب المحبوب أو فوات المكروه فكل بني آدم له اعتقاد فيه تصديق بشيء وتكذيب بشيء وله قصد وإرادة لما يرجوه مما هو عنده محبوب ممكن الوصول إليه أو لوجود المحبوب عنده أو لدفع المكروه عنه؛ والله خلق العبد يقصد الخير فيرجوه بعمله فإذا كذب بالحق فلم يصدق به ولم يرج الخير فيقصده ويعمل له كان خاسرًا بترك تصديق الحق وطلب الخير فكيف إذا كذب بالحق وكره إرادة الخير فكيف إذا صدق بالباطل وأراد الشر فذكر عبدالله بن مسعود أن لقلب ابن آدم لمة من الملك ولمة من الشيطان؛ فلمة الملك تصديق بالحق، وهو ما كان من غير جنس الاعتقاد الفاسد، ولمة الشيطان هو تكذيب بالحق وإيعاد بالشر؛ وهو ما كان من جنس إرادة الشر وظن وجوده، أما مع رجائه إن كان مع هوى نفس وإما مع خوفه إن كان غير محبوب لها وكل من الرجاء والخوف مستلزم للآخر.
فمبدأ العلم الحق والإرادة الصالحة، من لمة الملك، ومبدأ الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة، من لمة الشيطان، قال الله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً} [البقرة: من الآية268] [البقرة:268]، وقال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ} [آل عمران:175] أي: يخوفكم أولياءه، وقال تعالى:{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ}[الأنفال:48]
والشيطان وَسْواس خَنَّاس، إذا ذكر العبد ربه خنس، فإذا غفل عن ذكره وسوس؛ فلهذا كان ترك ذكر الله سببًا ومبدأ لنزول الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة في القلب، ومِنْ ذكر الله ـ تعالى ـ تلاوة كتابه وفهمه، ومذاكرة العلم، كما قال معاذ بن جبل: ومذاكرته تسبيح.
وقد تنازع أهل الكلام في حصول العلم في القلب عقب النظر في الدليل، فقال بعضهم: ذلك على سبيل التولد. وقال المنكرون للتولد: بل ذلك بفعل الله ـ تعالى. والنظر إما متضمن للعلم وإما موجب له، وهذا ينصره المنتسبون للسنة من المتكلمين ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وقالت المتفلسفة: بل ذلك يحصل بطريق الفيض من العقل الفعال عند استعداد النفس لقبول الفيض. وقد يزعمون أن العقل الفعال هو جبريل.
فأما قول القائلين: إن ذلك بفعل الله، فهو صحيح؛ بناء على أن الله هو معلم كل علم وخالق كل شىء، لكن هذا كلام مجمل ليس فيه بيان لنفس السبب الخاص، وأما قول القائلين بالتولد، فبعضه حق وبعضه باطل، فإن كان دعواهم أن العلم المتولد هو حاصل بمجرد قدرة العبد، فذلك باطل قطعًا، ولكن هو حاصل بأمرين: قدرة العبد، والسبب الآخر، كالقوة التي في السهم والقبول الذي في المحل، ولا ريب أن النظر هو بسبب، ولكن الشأن فيما به يتم حصول العلم.
وأما زعم المتفلسفة أنه بالعقل الفعال، فمن الخرافات التي لا دليل عليها، وأبطل من ذلك زعمهم أن ذلك هو جبريل، وزعمهم أن كل ما يحصل في عالم العناصر من الصور الجسمانية وكمالاتها، فهو من فيضه وبسببه، فهو من أبطل الباطل.
ولكن إضافتهم ذلك إلى أمور روحانية صحيح في الجملة؛ فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يدبر أمر السموات والأرض بملائكته التي هي السفراء في أمره، ولفظ [الملك] يدل على ذلك، وبذلك أخبرت الأنبياء، وقد شهد الكتاب والسنة من ذلك بما لا يتسع هذا الموضع لذكره، كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في ملائكة تخليق الجنين وغيره.
وأما تخصيص روح واحد متصل بفلك القمر، يكون هو رب هذا العالم، فهذا باطل، وليس هذا موضع استقصاء ذلك، ولكن لابد أن يُعْلم أن المبدأ في شعور النفس وحركتها هم الملائكة، أو الشياطين، فالملك يلقي التصديق بالحق والأمر بالخير، والشيطان يلقي التكذيب بالحق والأمر بالشر. والتصديق والتكذيب مقرونان بنظر الإنسان، كما أن الأمر والنهي مقرونان بإرادته.
فإذا كان النظر في دليل هاد ـ كالقرآن ـ وسلم من معارضات الشيطان تضمن ذلك النظر العلم والهدي؛ ولهذا أمر العبد بالاستعاذة من الشيطان الرجيم عند القراءة. وإذا كان النظر في دليل مضل والناظر يعتقد صحته، بأن تكون مقدمتاه أو إحداهما متضمنة للباطل، أو تكون المقدمات صحيحة لكن التأليف ليس بمستقيم، فإنه يصير في القلب بذلك اعتقاد فاسد، وهو غالب شبهات أهل الباطل المخالفين للكتاب والسنة من المتفلسفة والمتكلمين ونحوهم.
فإذا كان الناظر لابد له من منظور فيه، والنظر في نفس المتصور المطلوب حكمه لا يفيد علمًا، بل ربما خطر له بسبب ذلك النظر أنواع من الشبهات، يحسبها أدلة، لفرط تعطش القلب إلى معرفة حكم تلك المسألة وتصديق ذلك التصور.
وأما النظر المفيد للعلم، فهو ما كان في دليل هاد، والدليل الهادي ـ على العموم والإطلاق ـ هو [كتاب الله]، و[سنة نبيه] فإن الذي جاءت به الشريعة من نوعي النظر، هو ما يفيد وينفع ويحصل الهدى، وهو بذكر الله وما نزل من الحق.
فإذا أراد النظر والاعتبار في الأدلة المطلقة من غير تعيين مطلوب، فذلك النظر في كتاب الله وتدبره، كما قال تعالى: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 ،16]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ} [الشورى:53،52].
وأما النظر في مسألة معينة وقضية معينة، لطلب حكمها والتصديق بالحق فيها، والعبد لا يعرف ما يدله على هذا أو هذا فمجرد هذا النظر لا يفيد بل قد يقع له تصديقات يحسبها حقًا وهي باطل، وذلك من إلقاء الشيطان، وقد يقع له تصديقات تكون حقًا، وذلك من إلقاء الملك .
وكذلك إذا كان النظر في الدليل الهادي وهو القرآن، فقد يضع الكلم مواضعه ويفهم مقصود الدليل فيهتدى بالقرآن، وقد لا يفهمه، أو يحرف الكلم عن مواضعه فيضل به، ويكون ذلك من الشيطان، كما قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} [الإسراء:82]، وقال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ} [البقرة:26]، وقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة:124، 125]، وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}[فصلت: 44]، وقال: {هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138].
فالناظر في الدليل بمنزلة المترائى للهلال قد يراه، وقد لا يراه لعشى في بصره، وكذلك أعمى القلب.
وأما الناظر في المسألة، فهذا يحتاج إلى شيئين: إلى أن يظفر بالدليل الهادي، وإلى أن يهتدي به وينتفع. فأمره الشرع بما يوجب أن ينزل على قلبه الأسباب الهادية، ويصرف عنه الأسباب المعوقة، وهو ذكر الله ـ تعالى ـ والغفلة عنه، فإن الشيطان وسواس خناس، فإذا ذكر العبد ربه خنس، وإذا غفل عن ذكر الله وسوس.
وذكر الله يعطي الإيمان وهو أصل الإيمان. والله ـ سبحانه ـ هو رب كل شىء ومليكه، وهو معلم كل علم وواهبه، فكما أن نفسه أصل لكل شىء موجود، فذكره، والعلم به أصل لكل علم، وذكره في القلب.
والقرآن يعطي العلم المفصل فيزيد الإيمان، كما قال جندب بن عبد الله البجلي وغيره من الصحابة: تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا إيمانًا. ولهذا كان أول ما أنزل الله على نبيه:}اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، فأمره أن يقرأ باسم الله، فتضمن هذا الأمر بذكر الله، وما نزل من الحق، وقال:}اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1ـ 5 ] .
فذكر ـ سبحانه ـ أنه خلق أكرم الأعيان الموجودة ـ عمومًا وخصوصًا ـ وهو الإنسان، وأنه المعلم للعلم ـ عمومًا وخصوصًا ـ للإنسان، وذكر التعليم بالقلم الذي هو آخر المراتب؛ ليستلزم تعليم القول وتعليم العلم الذي في القلب.
وحقيقة الأمر: أن العبد مفتقر إلى ما يسأله من العلم والهدى، طالب سائل، فبذكر الله والافتقار إليه يهديه الله ويدله، كما قال: (يا عبادي، كلكم ضَالٌّ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم) ، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
ومما يوضح ذلك: أن الطالب للعلم بالنظر والاستدلال، والتفكر والتدبر، لا يحصل له ذلك إن لم ينظر في دليل يفيده العلم بالمدلول عليه، ومتى كان العلم مستفادًا بالنظر، فلا بد أن يكون عنـد الناظر مـن العلـم المذكـور الثابـت في قلبه ما لا يحتاج حصوله إلى نظر، فيكون ذلك المعلوم أصلاً وسببًا للتفكر الذي يطلب به معلومًا آخر؛ ولهذا كان الذكر متعلقًا بالله؛ لأنه ـ سبحانه ـ هو الحق المعلوم، وكان التفكر في مخلوقاته، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:191].
وقد جاء الأثر: (تفكَّروا في المخلوق ولا تتفكروا في الخالق)؛ لأن التفكير والتقدير يكون في الأمثال المضروبة، والمقاييس، وذلك يكون في الأمور المتشابهة، وهي المخلوقات .
وأما الخالق ـ جل جلاله، سبحانه وتعالى ـ فليس له شبيه ولا نظير، فالتفكر الذي مبناه على القياس ممتنع في حقه، وإنما هو معلوم بالفطرة، فيذكره العبد. وبالذكر، وبما أخبر به عن نفسه، يحصل للعبد من العلم به أمور عظيمة، لا تنال بمجرد التفكير والتقدير ـ أعني من العلم به نفسه، فإنه الذي لا تفكير فيه.
فأما العلم بمعاني ما أخبر به، ونحو ذلك، فيدخل فيها التفكير والتقدير كما جاء به الكتاب والسنة؛ ولهذا كان كثير من أرباب العبادة والتصوف يأمرون بملازمة الذكر، ويجعلون ذلك هو باب الوصول إلى الحق. وهذا حسن، إذا ضموا إليه تدبر القرآن والسنة واتباع ذلك، وكثير من أرباب النظر والكلام يأمرون بالتفكر والنظر، ويجعلون ذلك هو الطريق إلى معرفة الحق.
والنظر صحيح إذا كان في حق ودليل ـ كما تقدم ـ فكل من الطريقين فيها حق، لكن يحتاج إلى الحق الذي في الأخرى، ويجب تنزيه كل منهما عما دخل فيها من الباطل، وذلك كله باتباع ما جاء به المرسلون، وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع، وبينا طرق أهل العبادة والرياضة والذكر، وطريق أهل الكلام والنظر والاستدلال، وما في كل منهما من مقبول ومردود، وبينا ما جاءت به الرسالة من الطريق الكاملة الجامعة لكل حق، وليس هذا موضع بسط ذلك.
وإنما المقصود هنا أن الإنسان محس بأنه عالم، يجد ذلك ويعرفه بغير واسطة أحد،كما يحس بغير ذلك.
وحصول العلم في القلب كحصول الطعام في الجسم، فالجسم يحس بالطعام والشراب، وكذلك القلوب تحس بما يتنزل إليها من العلوم التي هي طعامها، وشرابها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته، وإن مأدبة الله هي القرآن)، وكما قال تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ} [الرعد:17]، وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا، وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).
فضرب مثل الهدى والعلم الذي ينزل على القلوب بالماء الذي ينزل على الأرض.
وكما أن لله ملائكة موكلة بالسحاب والمطر، فله ملائكة موكلة بالهدى والعلم، هذا رزق القلوب وقوتها، وهذا رزق الأجساد وقوتها، قال الحسن البصري في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3، الأنفال:3، الحج:35، القصص:54، السجدة:16، الشورى:38]، قال: إن من أعظم النفقة نفقة العلم، أو نحو هذا الكلام. وفي أثر آخر: نعمت العطية، ونعمت الهدية، الكلمة من الخير يسمعها الرجل فيهديها إلى أخ له مسلم. وفي أثر آخر عن أبي الدرداء: ما تصدق عبد بصدقة أفضل من موعظة يعظ بها إخوانا له مؤمنين، فيتفرقون وقد نفعهم الله بها. أو ما يشبه هذا الكلام.
وعن كعب بن عُجْرَة قال: ألا أهدي لك هدية؟ فذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وروى ابن ماجه في سننه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أفضل الصدقة أن يتعلم الرجل علمًا، ثم يعلمه أخاه المسلم). وقال معاذ بن جبل: عليكم بالعلم، فإن طلبه عبادة، وتعلمه لله حسنة، وبذله لأهله قربة، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، والبحث عنه جهاد، ومذاكرته تسبيح.
ولهذا كان معلم الخير يستغفر له كل شىء، حتى الحيتان في البحر، والله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير، لما في ذلك من عموم النفع لكل شىء. وعكسه كاتمو العلم، فإنهم يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، قال طائفة من السلف: إذا كتم الناس العلم، فعمل بالمعاصي أحتبس القَطْرُ، فتقول البهائم: اللهم عصاة بني آدم، فإنا منعنا القَطْر بسبب ذنوبهم.
وإذا كان علم الإنسان بكونه عالمًا مرجعه إلى وجوده ذلك، وإحساسه في نفسه بذلك وهذا أمر موجود بالضرورة ،لم يكن لهم أن يخبروا عما في نفوس الناس، بأنه ليس بعلم بغير حجة، فإن عدم وجودهم من نفوسهم ذلك لا يقتضي أن الناس لم يجدوا ذلك، لا سيما إذا كان المخبرون يخبرون عن اليقين الذي في أنفسهم، عمن لا يشكون في علمه وصدقه ومعرفته بما يقول.
وهذا حال أئمة المسلمين وسلف الأمة، وحملة الحجة، فإنهم يخبرون بما عندهم من اليقين والطمأنينة والعلم الضروري، كما في الحكاية المحفوظة عن [نجم الدين العُكْبَريِّ] لما دخل عليه متكلمان: أحدهما: أبو عبد الله الرازي، والآخر: من متكلمي المعتزلة، وقالا: يا شيخ، بلغنا أنك تعلم علم اليقين، فقال: نعم، أنا أعلم علم اليقين. فقالا: كيف يمكن ذلك، ونحن من أول النهار إلى الساعة نتناظر، فلم يقدر أحدنا أن يقيم على الآخر دليلاً؟ ـ وأظن الحكاية في تثبيت الإسلام ـ فقال: ما أدري ما تقولان، ولكن أنا أعلم علم اليقين. فقالا: صف لنا علم اليقين، فقال: علم اليقين ـ عندنا ـ واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها فجعلا يقولان: واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها؟! ويستحسنان هذا الجواب.
وذلك؛ لأن طريق أهل الكلام تقسيم العلوم إلى ضروري وكسبي، أو بديهي ونظري.
فالنظري الكسبي: لابد أن يرد إلى مقدمات ضرورية أو بديهية، فتلك لا تحتاج إلى دليل، وإلا لزم الدور أو التسلسل.
والعلم الضروري: هو الذي يلزم نفس المخلوق لزومًا لا يمكنه الانفكاك عنه، فالمرجع في كونه ضروريًا إلى أنه يعجز عن دفعه عن نفسه.
فأخبر الشيخ أن علومهم ضرورية، وأنها ترد على النفوس على وجه تعجز عن دفعه، فقالا له: ما الطريق إلى ذلك؟ فقال: تتركان ما أنتما فيه، وتسلكان ما أمركما الله به من الذكر والعبادة. فقال الرازي: أنا مشغول عن هذا. وقال المعتزلي: أنا قد احترق قلبي بالشبهات، وأحب هذه الواردات، فلزم الشيخ مدة، ثم خرج من محل عبادته، وهو يقول: والله يا سيدي، ما الحق إلا فيما يقوله هؤلاء المشبهة ـ يعني: المثبتين للصفات، فإن المعتزلة يسمون الصفاتية مشبهة ـ وذلك أنه علم علمًا ضروريًا لا يمكنه دفعه عن قلبه أن رب العالم لابد أن يتميز عن العالم، وأن يكون بائنًا منه، له صفات تختص به، وأن هذا الرب الذي تصفه الجهمية إنما هو عدم محض.
وهذا موضع الحكاية المشهورة عن الشيخ العارف أبي جعفر الهمداني -[هو أبو الفضل جعفر بن علي بن هبة الله بن أبي الفتح الهمداني، والمالكي، ولد سنة 546هـ، وأقام بالقاهرة مدة ثم توجه إلى دمشق، وروى الكثير، وكان ثقة صالحًا من أهل القرآن، قيل: إنه توفى سنة 636هـ بدمشق.] -لأبي المعالي الجويني، لما أخذ يقول على المنبر: كان الله ولا عرش، فقال: يا أستاذ، دعنا من ذكر العرش ـ يعني: لأن ذلك إنما جاء في السمع ـ أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط:[يا الله] إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو، لا تلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه، وقال: حيرني الهمداني، حيرني الهمداني، ونزل.
وذلك لأن نفس استوائه على العرش ـ بعد أن خلق السموات والأرض في ستة أيام ـ علم بالسمع، الذي جاءت به الرسل، كما أخبر الله به في القرآن والتوراة.
وأما كونه عاليًا على مخلوقاته بائنا منهم، فهذا أمر معلوم بالفطرة الضرورية، التي يشترك فيها جميع بني آدم.
وكل من كان بالله أعرف، وله أعبد، ودعاؤه له أكثر، وقلبه له أذكر، كان علمه الضروري بذلك أقوى وأكمل، فالفطرة مكملة بالفطرة المنزلة، فإن الفطرة تعلم الأمر مجملًا، والشريعة تفصله وتبينه، وتشهد بما لا تستقل الفطرة به، فهذا هذا، والله أعلم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق