فصل في قرب العبد من ربه وقرب الرب من عبده
قد كتبت قبل هذا في الجزء الثاني من المرتب: الكلام في قرب العبد من ربه، وذهابه إليه، وقرب الرب من عبده، وتجلي الرب له وظهوره وما يعترف به المتفلسفة من ذلك؛ ثم المتكلمة ثم أهل السنة وأن ما يثبته هؤلاء من الحق يثبته أهل السنة. ثم يثبت أهل السنة ـ أشياء ـ لا يعرفها أهل البدعة؛ لجهلهم وضلالهم؛ إذ كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله. ثم المعاني الذي يثبتها هؤلاء من الحق ويتأولون النصوص عليها حسنة صحيحة جيدة؛ لكن الضلال جاء من جهة نفيهم ما زاد عليها وذلك مثل إثبات المتفلسفة لواجب الوجود، وأن الروح غير البدن، وأنها باقية بعد فراق البدن وأنها منعمة أو معذبة: نعيما وعذابا روحانيين. وكذلك ما يثبتونه من قوى البدن والنفس الصالحة وغير الصالحة: كل ذلك حق؛ لكن زعمهم أن لا معنى للنصوص إلا ذلك وأن لا حق وراء ذلك وأن [الجنة] و [النار] عبارة عن ذلك؛ وإنما الوصف المذكور في الكتب الإلهية أمثال مضروبة لتفهيم المعاد الروحاني وأن [الملائكة] و [الجن] هي أعراض وهي قوى النفس الصالحة والفاسدة وأن [الروح] لا تتحرك؛ وإنما ينكشف له حقائق الكون فيكون ذلك قربها إلى الله وأن معراج النبي هو من هذا الباب هذا النفي والتكذيب كفر. وكذلك ما يثبته المتكلمة: من أن العبد يتقرب ببدنه وروحه إلى [الأماكن المفضلة] التي يظهر فيها نور الرب كالسموات والمساجد وكذلك الملائكة فهذا صحيح؛ لكن دعواهم أنهم لا يتقربون إلى ذات الله وأن الله ليس على العرش؛ هذا باطل. وإنما الصواب إثبات ذلك وإثبات ما جاءت به النصوص أيضا من قرب العبد إلى ربه وتجلي الرب لعباده بكشف الحجب المتصلة بهم والمنفصلة عنهم وأن القرب والتجلي فيه علم العبد الذي هو ظهور الحق له وعمل العبد الذي هو دنوه إلى ربه. وقد تكلمت في دنو الرب وقربه وما فيه من النزاع بين أهل السنة. ثم بعض المتسننة والجهال: إذا رأوا ما يثبته أولئك من الحق: قد يفرون من التصديق به؛ وإن كان لا منافاة بينه وبين ما ينازعون أهل السنة في ثبوته؛ بل الجميع صحيح. وربما كان الإقرار بما اتفق على إثباته أهم من الإقرار بما حصل فيه نزاع؛ إذ ذلك أظهر وأبين وهو أصل للمتنازع فيه؛ فيحصل بعض الفتنة في نوع تكذيب ونفي حال أو اعتقاد كحال المبتدعة فيبقى الفريقان في بدعة وتكذيب ببعض موجب النصوص وسبب ذلك أن قلوب المثبتة تبقى متعلقة بإثبات ما نفته المبتدعة. وفيهم نفرة عن قول المبتدعة؛ بسبب تكذيبهم بالحق ونفيهم له فيعرضون عن ما يثبتونه من الحق أو ينفرون منه أو يكذبون به كما قد يصير بعض جهال المتسننة في إعراضه عن بعض فضائل علي وأهل البيت؛ إذا رأى أهل البدعة يغلون فيها؛ بل بعض المسلمين يصير في الإعراض عن فضائل موسى وعيسى بسبب اليهود والنصارى بعض ذلك حتى يحكى عن قوم من الجهال أنهم ربما شتموا المسيح إذا سمعوا النصارى يشتمون نبينا في الحرب. وعن بعض الجهال أنه قال: سبوا عليا كما سبوا عتيقكم كفر بكفر؛ وإيمان بإيمان. ومثال ذلك في ـ باب الصفات ـ أن العبد إذا عرف ربه وأحبه؛ بل لو عرف غير الله وأحبه وتألهه؛ يبقى ذلك المعروف المحبوب المعظم في القلب واللسان وقد تقوى به شدة الوجد والمحبة والتعظيم حتى يستغرق به ويفنى به عن نفسه. كما قيل إن رجلا كان يحب آخر؛ فوقع المحبوب في اليم. فألقى الآخر نفسه خلفه فقال: أنا وقعت فما الذي أوقعك؟ فقال: غبت بك عني فظننت أنك أني. وهذا كما قيل:
مثالك في عيني وذكراك في فمي ** ومثواك في قلبي، فأين تغيب؟
وقال آخر:
ساكن في القلب يعمره ** لست أنساه فأذكره
ومولى قد رضيت به ** ونصيبي منه أوفره
ولقوة الاتصال: زعم بعض الناس أن العالم والعارف يتحد بالمعلوم المعروف وآخرون يرون أن المحب قد يتحد بالمحبوب. وهذا إما غلط؛ وإما توسع في العبارة فإنه نوع اتحاد: هو اتحاد في عين المتعلقات من نوع اتحاد في المطلوب والمحبوب والمأمور به والمرضي والمسخوط؛ واتحاد في نوع الصفات من الإرادة والمحبة والأمر والنهي والرضا والسخط بمنزلة اتحاد الشخصين المتحابين. وهذا له تفصيل نذكره في غير هذا الموضع. وإنما المقصود هنا: أن المعروف المحبوب في قلب العارف المحب: له أحكام وأخبار صادقة؛ كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَه} [الزخرف 84] وقوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم 20] وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجن 3] وقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى 1]. وقوله في الاستفتاح: (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك؛ ولا إله غيرك). ويحصل لقلوب العارفين به استواء وتجل لا يزول عنها يقر به كل أحد؛ لكن أهل السنة يقرون بكثير مما لا يعرفه أهل البدعة؛ كما يقرون باستوائه على العرش. ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (عبدي مرضت فلم تعدني فيقول: أي رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده). فقد أخبر أنه عند عبده؛ وجعل مرضه مرضه والإنسان قد تكون عنده محبة وتعظيم لأمير أو عالم أو مكان: بحيث يغلب على قلبه ويكثر من ذكره وموافقته في أقواله وأعماله فيقال: إن أحدهما الآخر كما يقال: أبو يوسف أبو حنيفة. ويشبه هذا من بعض الوجوه: ظهور الأجسام المستنيرة وغيرها في الأجسام الشفافة كالمرآة المصقولة والماء الصافي ونحو ذلك. بحيث ينظر الإنسان في الماء الصافي السماء والشمس والقمر والكواكب. كما قال بعضهم:
إذا وقع السماء على صفاء كدر أنى يحركه النسيم ؟ ترى فيه السماء بلا امتراء كذاك البدر يبدو والنجوم وكذاك قلوب أرباب التجلي يرى في صفوها الله العظيم وكذلك نرى في المرآة صورة ما يقابلها من الشمس والقمر والوجوه وغير ذلك. ثم قد يحاذي تلك المرآة مرآة أخرى فترى فيها الصورة التي رئيت في الأولى ويتسلل الأمر فيه. وهذه المرائي المنعكسة تشبه من وجه بعيد ظهور اسم المحبوب المعظم في الورق بالخط والكتابة سواء كان بمداد أو بتنقير أو بغير ذلك فإنه هنا لم يظهر إلا حروف اسمه في جسم لا حس له ولا حركة وفي الأجسام الصقلية ظهرت صورته؛ لكن من غير شعور بالمظهر ولا حركة فالأول مظهر اسمه وهذا مظهر ذاته. وأما في قلوب العباد وأرواحهم: فيظهر المعروف المحبوب المعظم وأسماؤه في القلب الذي يعلمه ويحبه. وذلك نوع أكمل وأرفع من غيره بل ليس له نظير. وإلى ذلك أشار بقوله: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} [المجادلة 22] وهو الذي قال: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُه} [المائدة 5] وقال: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا} [البقرة 137] وكذلك قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} [الشورى 11] وقوله: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِل} [البقرة 261].
فصل:
فهذا القدر لا يخالف فيه عاقل فإنه أمر محسوس مدرك وهو أقل مراتب الإقرار بالله؛ بل الإقرار بوجود أي شيء كان وأقل مراتب عبادته ومحبته والتقرب إليه ثم مع ذلك هل يتحرك القلب. والروح العارفة المحبة أم لا حركة لها إلا مجرد التحول من صفة إلى صفة ؟. الأول مذهب عامة المسلمين. وجمهور الخلق. والثاني قول المتفلسفة ومن اتبعهم؛ إذ عندهم أن الروح لا داخل البدن ولا خارجه ولا تتحرك ولا تسكن. وأما الجمهور فيقرون بتحركها نحو المحبوب المطلوب كائنا ما كان. ويقر جمهور المتكلمين بأنها تتحرك إلى المواضع المشرفة التي تظهر فيها آثار المحبوب وأنواره كتحرك قلوب العارفين وأبدانهم إلى السموات وإلى المساجد ونحو ذلك. وكذلك تحرك ذلك إلى ذات المحبوب من المخلوقين كالأنبياء والملائكة وغيرهم وكل من الفريقين يقر بتجلي الرب وظهوره لقلوب العارفين وهو عندهم حصول الإيمان والعلم والمعرفة في قلوبهم بدلا من الكفر والجهل؛ وهو حصول المثل والحد والاسم في السماء والأرض. وأما حركة روح العبد أو بدنه إلى ذات الرب فلا يقر به من كذب بأن الله فوق العرش من هؤلاء المعطلة الجهمية الذين كان السلف يكفرونهم ويرون بدعتهم أشد البدع ومنهم من يراهم خارجين عن الثنتين والسبعين فرقة: مثل من قال إنه في كل مكان أو إنه لا داخل العالم ولا خارجه؛ لكن عموم المسلمين وسلف الأمة وأهل السنة من جميع الطوائف تقر بذلك؛ فيكون العبد متقربا بحركة روحه وبدنه إلى ربه مع إثباتهم أيضا التقرب منهما إلى الأماكن المشرفة وإثباتهم أيضا تحول روحه وبدنه من حال إلى حال. فالأول مثل معراج النبي صلى الله عليه وسلم وعروج روح العبد إلى ربه وقربه من ربه في السجود وغير ذلك. والثاني: مثل الحج إلى بيته وقصده في المساجد. والثالث: مثل ذكره له ودعائه ومحبته وعبادته وهو في بيته؛ لكن في هذين يقرون أيضا بقرب الروح أيضا إلى الله نفسه فيجمعون بين الأنواع كلها. وأما تجليه لعيون عباده فأقر به المتكلمون الصفاتية؛ كالأشعرية والكلابية. ومن نفى منهم علو الرب على العرش قال: هو بخلق الإدراك في عيونهم ورفع الحجب المانعة. وأما أهل السنة: فيقرون بذلك وبأنه يرفع حجبا منفصلة عن العبد حتى يرى ربه كما جاء في الأحاديث الصحيحة.
سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله عمن يقول: إن النصوص تظاهرت ظواهرها على ما هو جسم أو يشعر به والعقل دل على تنزيه الباري عز وجل عنه؛ فالأسلم للمؤمن أن يقول: هذا ـ متشابه ـ لا يعلم تأويله إلا الله. فقال له قائل: هذا لا بد له من ضابط وهو الفرق في الصفات بين المتشابه وغيره؛ لأن دعوى التأويل في كل الصفات باطل وربما أفضى إلى الكفر ويلزم منه أن لا يعلم لصفة من صفاته معنى فلا بد حينئذ من الفرق بين ما يتأول وما لا يتأول فقال: كل ما دل دليل العقل على أنه تجسيم كان ذلك متشابها. فهل هذا صحيح أم لا ؟ ابسطوا القول في ذلك.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين. هذه ـ مسألة ـ كبيرة عظيمة القدر اضطرب فيها خلائق من الأولين والآخرين من أوائل المائة الثانية من الهجرة النبوية فأما المائة الأولى فلم يكن بين المسلمين اضطراب في هذا وإنما نشأ ذلك في أوائل المائة الثانية لما ظهر ـ الجعد بن درهم ـ وصاحبه ـ الجهم بن صفوان ـ ومن اتبعهما من المعتزلة وغيرهم على إنكار الصفات. فظهرت مقالة الجهمية النفاة - نفاة الصفات - قالوا: لأن إثبات الصفات يستلزم التشبيه والتجسيم والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك؛ لأن الصفات التي هي العلم والقدرة والإرادة ونحو ذلك أعراض ومعان تقوم بغيرها والعرض لا يقوم إلا بجسم والله تعالى ليس بجسم؛ لأن الأجسام لا تخلو من الأعراض الحادثة وما لا يخلو من الحوادث فهو محدث. قالوا: وبهذا استدللنا على حدوث الأجسام؛ فإن بطل هذا بطل الاستدلال على حدوث الأجسام فيبطل الدليل على حدوث العالم فيبطل الدليل على إثبات الصفات. قالوا: وإذا كانت الأعراض التي هي الصفات لا تقوم إلا بجسم والجسم مركب من أجزائه والمركب مفتقر إلى غيره ولا يكون غنيا عن غيره واجب الوجود بنفسه والله تعالى غني عن غيره واجب الوجود بنفسه. قالوا: ولأن الجسم محدود متناه؛ فلو كان له صفات لكان محدودا متناهيا؛ وذلك لا بد أن يكون له مخصص خصصه بقدر دون قدر وما افتقر إلى مخصص لم يكن غنيا قديما واجب الوجود بنفسه. قالوا: ولأنه لو قامت به الصفات لكان جسما ولو كان جسما لكان مماثلا لسائر الأجسام فيجوز عليه ما يجوز عليها ويمتنع عليه ما يمتنع عليها وذلك ممتنع على الله تعالى. وزاد الجهم في ذلك هو والغلاة - من القرامطة والفلاسفة - نحو ذلك فقالوا: وليس له اسم كالشيء والحي والعليم ونحو ذلك؛ لأنه إذا كان له اسم من هذه الأسماء لزم أن يكون متصفا بمعنى الاسم كالحياة والعلم؛ فإن صدق المشتق مستلزم لصدق المشتق منه؛ وذلك يقتضي قيام الصفات به وذلك محال؛ ولأنه إذا سمي بهذه الأسماء فهي مما يسمى به غيره. والله منزه عن مشابهة الغير. وزاد آخرون بالغلو فقالوا: لا يسمى بإثبات ولا نفي ولا يقال: موجود ولا لا موجود ولا حي ولا لا حي؛ لأن في الإثبات تشبيها له بالموجودات وفي النفي تشبها له بالمعدومات وكل ذلك تشبيه. فلما ظهر هؤلاء الجهمية أنكر السلف والأئمة مقالتهم وردوها وقابلوها بما تستحق من الإنكار الشرعي وكانت خفية إلى أن ظهرت وقويت شوكة الجهمية في أواخر المائة الأولى وأوائل الثانية في دولة أولاد الرشيد فامتحنوا الناس المحنة المشهورة التي دعوا الناس فيها إلى القول بخلق القرآن ولوازم ذلك: مثل إنكار الرؤية والصفات بناء على أن القرآن هو من جملة الأعراض؛ فلو قام بذات الله لقامت به الأعراض فيلزم التشبيه والتجسيم. وحدث مع الجهمية قوم شبهوا الله تعالى بخلقه؛ فجعلوا صفاته من جنس صفات المخلوقين فأنكر السلف والأئمة على الجهمية المعطلة وعلى المشبهة الممثلة وكان إمام المعتزلة ـ أبو الهذيل العلاف ـ ونحوه من نفاة الصفات قالوا: يقتضي أن يكون جسما والله تعالى منزه عن ذلك. قال هؤلاء: بل هو جسم والجسم هو القائم بنفسه أو الموجود أو غير ذلك من المقالات وطعنوا في أدلة نفاة الجسم بكلام طويل لا يتسع له الجواب هنا. ثم من هؤلاء من قال: هو جسم كالأجسام ومنهم من وصفه بخصائص المخلوقات وحكي عن كل واحدة من الطائفتين مقالات شنيعة. وجاء ـ أبو محمد بن كلاب ـ فقال هو وأتباعه: هو الموصوف بالصفات ولكن ليست الصفات أعراضا؛ إذ هي قديمة باقية لا تعرض ولا تزول ولكن لا يوصف بالأفعال القائمة به كالحركات؛ لأنها تعرض وتزول. فقال ابن كرام وأتباعه: لكنه موصوف بالصفات وإن قيل إنها أعراض وموصوف بالأفعال القائمة بنفسه وإن كانت حادثة. ولما قيل لهم: هذا يقتضي أن يكون جسما قالوا: نعم هو جسم كالأجسام وليس ذلك ممتنعا دائما وإنما الممتنع أن يشابه المخلوقات فيما يجب ويجوز ويمتنع ومنهم من قال: أطلق لفظ الجسم لا معناه. وبين هؤلاء المتكلمين النظار بحوث طويلة مستوفاة في غير هذا الموضع.
وأما [السلف والأئمة] فلم يدخلوا مع طائفة من الطوائف فيما ابتدعوه من نفي أو إثبات بل اعتصموا بالكتاب والسنة ورأوا ذلك هو الموافق لصريح العقل فجعلوا كل لفظ جاء به الكتاب والسنة من أسمائه وصفاته حقا يجب الإيمان به وإن لم تعرف حقيقة معناه وكل لفظ أحدثه الناس فأثبته قوم ونفاه آخرون فليس علينا أن نطلق إثباته ولا نفيه حتى نفهم مراد المتكلم فإن كان مراده حقا موافقا لما جاءت به الرسل والكتاب والسنة: من نفي أو إثبات قلنا به؛ وإن كان باطلا مخالفا لما جاء به الكتاب والسنة من نفي أو إثبات منعنا القول به ورأوا أن الطريقة التي جاء بها القرآن هي الطريقة الموافقة لصريح المعقول وصحيح المنقول وهي طريقة الأنبياء والمرسلين.
وأن الرسل صلوات الله عليهم جاءوا بنفي مجمل وإثبات مفصل؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات 180ـ182] فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب وطريقة الرسل هي ما جاء بها القرآن والله تعالى في القرآن يثبت الصفات على وجه التفصيل وينفي عنه - على طريق الإجمال - التشبيه والتمثيل.
فهو في القرآن يخبر أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه عزيز حكيم غفور رحيم وأنه سميع بصير وأنه غفور ودود وأنه تعالى - على عظم ذاته - يحب المؤمنين ويرضى عنهم ويغضب على الكفار ويسخط عليهم وأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وأنه كلم موسى تكليما وأنه تجلى للجبل فجعله دكا؛ وأمثال ذلك. ويقول في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء}؛ {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم 65] {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَال} [النحل 74] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص] فيثبت الصفات وينفي مماثلة المخلوقات.
ولما كانت طريقة السلف، أن يصفوا الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. ومخالفو الرسل يصفونه بالأمور السلبية، ليس كذا، ليس كذا . فإذا قيل لهم: فأثبتوه، قالوا: هو وجود مطلق، أو ذات بلا صفات.
وقد علم بصريح المعقول أن المطلق بشرط الإطلاق، لا يوجد إلا في الأذهان، لا في الأعيان، وأن المطلق لا بشرط لا يوجد في الخارج مطلقًا، لا يوجد إلا معينًا، ولا يكون للرب عندهم حقيقة مغايرة للمخلوقات، بل إما أن يعطلوه أو يجعلوه وجود المخلوقات أو جزءها أو وصفها، والألفاظ المجملة يكفون عن معناها.
فإذا قال قوم: إن الله في جهة أو حيز، وقال قوم: إن الله ليس في جهة ولا حيز، استفهموا كل واحد من القائلين عن مراده، فإن لفظ الجهة والحيز فيه إجمال واشتراك. فيقولون: ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق، والله ـ تعالى ـ منزه بائن عن مخلوقاته، فإنه ـ سبحانه ـ خلق المخلوقات بائنة عنه، متميزة عنه، خارجة عن ذاته، ليس في مخلوقاته شىء من ذاته، ولا في ذاته شىء من مخلوقاته، ولو لم يكن مباينًا لكان إما مداخلاً لها حالاً فيها، أو محلا لها، والله ـ تعالى ـ منزه عن ذلك.
وإما ألا يكون مباينًا لها، ولا مداخلا لها فيكون معدومًا، والله ـ تعالى ـ منزه عن ذلك.
والجهمية ـ نفاة الصفات ـ تارة يقولـون بمـا يستلـزم الحلـول والاتحـاد، أو يصـرحون بذلك، وتارة بما يستلزم الجحود والتعطيل، فنفاتهم لا يعبدون شيئًا، ومثبتتهم يعبدون كل شىء ويقال ـ أيضًا: فإذا كان ما ثَمَّ موجود إلا الخالق والمخلوق، فالخالق بائن عن المخلوق.
فإذا قال القائل: هو في جهة أو ليس في جهة، قيل له: الجهة أمر موجود أو معدوم، فإن كان أمرًا موجودًا، ولا موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق بائن عن المخلوق، لم يكن الرب في جهة موجودة مخلوقة، وإن كانت الجهة أمرًا معدومًا بأن يسمى ما وراء العالم جهة، فإذا كان الخالق مباينًا العالم، وكان ما وراء العالم جهة مسماة وليس هو شيئًا موجودًا، كان الله في جهة معدومة بهذا الاعتبار . لكن لا فرق بين قول القائل: هو في معدوم، وقوله: ليس في شىء غيره، فإن المعدوم ليس شيئًا باتفاق العقلاء.
ولا ريب أن لفظ الجهة يريدون به تارة معنى موجودًا، وتارة معنى معدومًا، بل المتكلم الواحد يجمع في كلامه بين هذا وهذا، فإذا أزيل الاحتمال ظهر حقيقة الأمر، فإذا قال القائل: لو كان في جهة لكانت قديمة معه. قيل له: هذا إذا أريد بالجهة أمر موجود سواه، فالله ليس في جهة بهذا الاعتبار.
وإذا قال: لو رؤى لكان في جهة وذلك محال، قيل له: إن أردت بذلك، لكان في جهة موجودة فذلك محال، فإن الموجود يمكن رؤيته وإن لم يكن في موجود غيره، كالعالم فإنـه يمكن رؤية سطحه وليس هو في عالم آخر، وإن قال: أردت أنـه لابد أن يكون فيما يسمى جهة ولو معدومًا، فإنه إذا كان مباينًا للعالم سمى ما وراء العالم جهة. قيل له: فلم قلت: إنه إذا كان في جهة بهذا الاعتبار كان ممتنعًا؟ فإذا قال: لأن ما باين العالم ورؤى لا يكون إلا جسمًا أو متحيزًا، عاد القول إلى لفظ الجسم والمتحيز كما عاد إلى لفظ الجهة، فيقال له: المتحيز يراد به ما حازه غيره، ويراد به ما بان عن غيره ـ فكان متحيزًا عنه، فإن أردت بالمتحيز الأول لم يكن ـ سبحانه ـ متحيزًا؛ لأنه بائن عن المخلوقات لا يحوزه غيره، وإن أردت الثاني فهو ـ سبحانه ـ بائن عن المخلوقات منفصل عنها، ليس هو حالاً فيها ولا متحدًا بها.
فبهذا التفصيل يزول الاشتباه والتضليل، وإلا فكل من نفى شيئًا من الأسماء والصفات سمى من أثبت ذلك مجسمًا قائلاً بالتحيز والجهة. فالمعتزلة ونحوهم يسمون الصفاتية ـ الذين يقولون: إن الله ـ تعالى ـ حـي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، يسمونهم ـ مُجَسِّمة مشبهة حشوية، والصفاتية هم السلف والأئمة وجميع الطوائف المثبتة للصفات، كالكُلاَّبية والكَرَّامية، والأشعرية، والسالمية، وغيرهم من طوائف الأمة، قالت نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة وطائفة من الفلاسفة لهؤلاء: إذا أثبتم له حياة وقدرة وكلامًا فهذه أعراض، والأعراض لا تقوم إلا بجسم، وإذا قلتم: يرى، فالرؤية لا تكون إلا لمعاين في جهة، وهذا يستلزم التجسيم.
فإذا قالت الأشعرية ومن اتبعهم: نحن نثبت هذه الصفات ولا نسميها أعراضًا؛ لأن العَرَض ما يعرض لمحله وهذه الصفات باقية لا تزول، قالت لهم النفاة: هذا نزاع لفظي، فإن العرض عندكم ينقسم إلى لازم لمحله لا يفارقـه ـ ما دام المحل موجودًا ـ وإلى مـا يجوز أن يفارق محله، فالأول كالتحيز للجسم، بل وكالحيوانية والناطقية للإنسان فإنه ما دام إنسانًا لا تفارقه هذه الصفة.
وأما قولكم: إن العرض لا يبقى زمانين، فهذا شىء انفردتم به من بين سائر العقلاء، وكابرتم به الحس، لتنجوا بالمغاليط عن هذه الإلزامات المفحمة، ثم إنكم تقولون بتجدد أمثاله، فهذا هو معنى بقاء العرض، وهذا كما قلتم: إنه يرى بلا مواجهة ولا مدابرة، ولا يتوجه إليه الرائي بجهة من جهاته، فهذا ـ أيضًا ـ مما انفردتم به عن العقلاء وكابرتم به الحس والعقـل، قالت لهم النفاة: فأثبتم مـا يستلزم التجسيم والتشبيه والحشو أو نفيتم التلازم فخالفتم صريح العقل والضرورة.
ولهذا صار حُذَّاقُكم إلى أنكم في الحقيقة موافقون لنا على نفي رؤية الله ـ تعالى ـ ولكن أظهرتم إثباتها لكونه المشهور عند الحشوية المشهورين بالسنة والجماعـة، ليقال: إنكم منهم، أو أثبتم ذلك تناقضًا منكم، فأنتم دائرون بين المناقضة والمداهنة.
فإن كان الرجل ممن يوافق نفاة الصفات ويثبت أسماء الله الحسنى ـ كما تفعل المعتزلة وهم أئمة الكلام ـ سماه نفاة أسماء الله الحسنى مشبهًا حشويًا مجسمًا، كما فعلت القرامطة الحاكمية الباطنية وغيرهم، وقالوا: إذا قلتم إنه موجود عليم حي قدير، فهذا هو القول بالتشبيه والتجسيم والحشو، فإن ذلك مشابهة لغيره من المخلوقات، ولأنه لا يعقل موجود حي عليم قدير إلا جسمًا، ولأن هذه الأسماء تستلزم الصفات، والصفات تستلزم التجسيم.
فإن كان الرجل ممن ينفي الأسماء والصفات ـ كما تفعله غلاة الجهمية والقرامطة والفلاسفة ـ فلابد له أن يثبت أنه موجود.
وحينئذ، فتقول له النفاة: أنت مُجَسِّم مُشَبِّه حَشَوِيٌّ؛ لأنه إذا كان موجودًا فقد شاركـه غيره في معنى الوجود وهو التشبيه؛ لأنه لا يعقل موجود إلا جسم أو قائم بجسم، فحينئذ يحتاج أن يقول: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، أو لا موجود ولا لا موجود، ولا حي ولا لا حي، فيلزم نفي النقيضين جميعًا وما هو في معنى النقيضين، وذلك من أعظم الأمور الباطلة في بديهة العقل، مع أنه يلزم على قياس قولهم تشبيهه بالممتنعات؛ لأن ما ليس بموجود ولا معدوم لا تكون له حقيقة أصلاً ـ لا موجودة ولا معدومة ـ بل هو أمر مقدر في الأذهان لا يتحقق في الأعيان، هذا مع ما التزمه من الكفر الصريح.
ولو قدر أنه نفي الوجود الواجب القديم بالكلية، لكان مع الكفر الذي هو أصل كل كفر قد كابر القضايا الضرورية، فإنا نشهد الموجودات ونعلم أن كل موجود إما قديم، وإما مُحْدَث، وإما واجب موجود بنفسه، وإما ممكن بنفسه موجود بغيره، وكل محدث وممكن بنفسه موجود بغيره، فلابد له من قديم واجب بنفسه، فالوجود بالضرورة يستلزم إثبات موجود قديم. ومن الوجود ما هو ممكن محدث، كما نشهده في المحدثات من الحيوان والنبات.
فإذا علم بضرورة العقول أن الوجود فيه ما هو موجود قديم واجب بنفسه، وفيه ما هو مُحدَث موجود ممكن بنفسه، فهذان الموجودان اتفقا في مسمى الوجود، وامتاز واحد منهما عن الآخر بخصوص وجوده، فمن لم يثبت مـا بين الموجودين من الاتفاق وما بينهما من الافتراق، وإلا لزمه أن تكون الموجودات كلهـا قديمة واجـبة بأنفسهـا، أو محدثة: ممكنة مفترقة إلى غيرها، وكلاهما معلوم الفساد بالاضطرار، فتعين إثبات الاتفاق من وجه والامتياز من وجه، ونحن نعلم أن ما امتاز به الخالق الموجود عن سائر الموجودات، أعظم ممـا تمتاز بـه سائر الموجودات بعضها عن بعض، فـإذا كان [الملك] و[البعوض] قد اشتركا في مسمى الوجود والحي، مع تفاوت ما بينهما، فالخالق ـ سبحانه ـ أولى بمباينته للمخلوقات، وإن حصلت الموافقة في بعض الأسماء والصفات.
0 التعليقات:
إرسال تعليق